خرج تابوت صديقي من منزله محمولاً على الأكتاف. تعب قلبه فتوقف عن العمل. رحل صديقي من دون أن يستأذننا إن كنا سنسمح له بتركنا باكراً. انتظرته عند مدخل بنايته، بصمت. عكس المرات السابقة لم أصرخ طالباً منه الاستعجال في النزول. تركته يأخذ كل الوقت الذي يريده، فهذه المرة الأخيرة التي يخرج فيها من منزله. فجأة ارتفع صراخ النساء. «الله معك يا محمد». علمت بأنه خرج الآن من بيته. أُنزل على الدرج بهدوء على وقع التكبير. وضع على مدخل البناية. انتظرنا نزول زوجته. وصلت وهي تبكي. ودّعته. أوصته بأن يسلم على جدها وخالها وأبيها. لم تكن ترتدي ثياباً سوداء، كانت ثيابها بيضاء «من فوق لتحت».
عند وصولها، رفع التابوت مجدداً. مرّت زوجته تحته وهي تبكي وتلمس بطنها. لم أفهم معنى هذه الحركة، التي تبيّن لاحقاً أنها موجّهة للموجودين ليعرفوا أنها حامل. سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني كانت تنتظرنا. وضع التابوت فيها. صعد والده بقربه وهو يمرر أصابعه على النعش، كمن يمررها على وجه ابنه وهو نائم في سريره في ليلة شتاء باردة. سارت سيارة الاسعاف أمتاراً قليلة لكنها لم تكمل سيرها لضيق الأزقة. أنزل النعش وأكمل رحلته محمولاً على الاكتاف. كانت صيحات التكبير والصلوات تسبقنا فتقفل المحال أبوابها قبل وصولنا. يسألك المارة عن الميت و... من أي ضيعة من فلسطين؟
نصل الى باب الجبانة. يوضع النعش على الأرض. ننتظر وصول المشيّعين. في تلك اللحظة اقتربت من الحفرة التي سينزل صديقي فيها، أحجز الموقع الأقرب الى حافة قبره كي أستطيع إلقاء النظرة الاخيرة عليه عند كشف وجهه. في انتظار الانتهاء من الصلاة عليه، أشعل سيجارتي. تأملت تفاصيل جبانة المخيم، لأنني سأدفن فيها، أنا، وأخي. أما أمي فستدفن في جبانة أخرى خاصة باللبنانيين. نعم، حتى في الموت سيفرقوننا. رأيت القبور الجديدة. لم تكن عشوائية، بل مصفوفة بشكل متراص: لا يوجد أي مسافة بين القبر والآخر، وذلك للاستفادة من مساحة الارض قدر المستطاع. بالقرب من كل قبر زرعت شجرة زيتون صغيرة. أحببت الفكرة. شجرة زيتون فوق رأس الميت لـ«يشعر» كأنه دفن في فلسطين. أنهى المصلون صلاتهم وأصبح صديقي قرب قبره، منزله الجديد. تأملت لحده الذي أُنزل فيه. وضعوه على كتفه اليمنى. نزل والده معه. قبّله ثلاث قبلات. وضعوا البلاطة الأولى، فطلب والده التوقف قليلاً. أخرج من جيبه كيساً فيه تراب وقصفة زيتون. «هدول من القدس»، يقول. يضعهم بالقرب من وجه ابنه الميت. يُغلق القبر. صديقي دفن معه تراب من وطنه. في القبر صديق عاش لاجئاً ومات لاجئاً وسيُبعث لاجئاً.

يمكنكم متابعة قاسم س. قاسم عبر تويتر | @QassemsQassem