_ 1_


أدبُ الرئيس، الجمّ، والكثير _ بالنسبة إلى أيّ سياسي _ يثير، لدى زائره، سؤالاً حائراً: من أين أتى أولئك «المعارضون» المكتظون بالعنجهيّة، بالأوصاف التي تُطلق على بشار الأسد: الطاغية، الدكتاتور... إلخ؟
الأسد صديق ودود وذكيّ يمكنكَ أن تصادفه، كإنسان، في الحياة اليومية وتحبّه. وقد برهن، إلى ذلك، أنه صلب كفاية ليخوض معركة كسر العظم مع أعداء الدولة السورية. هذه الدولة هي الدكتاتورية، وواجبها أن تكون كذلك في المواجهة المستمرة ضد السيطرة الخارجية ومسارات التفكك الداخلي؛ الآن، بعد 30 شهراً من الحرب، نفهم هذه المعادلة. ما زلنا نريد، بالطبع، مع السوريين، تنظيماً سياسياً لدكتاتورية الدولة الوطنية، أكثر فعالية في تمثيل الحساسيات الوطنية الاجتماعية، وأكثر عدالة، في ظل التزام _ آن أوانه _ بحقوق الإنسان والمواطن، والبحث عن صيغة ديموقراطية مطابقة لاحتياجات الدولة والمجتمع، ولا تخلّ بدكتاتورية الدولة الوطنية ضد الامبريالية والرجعية النفطية _ والعثمانية _ وقوى الظلام والهمجية والفوضى والإسلام السياسي والطائفية ونزعات التدمير الذاتي والانتحار الوطني.
«الدولة القومية العلمانية» هي خيار سوريا الموضوعي. وهي، أيضاً، وبلا تردد، خيار الرئيس. وهو ما يمنحه، بقوة الأمر الواقع أو بقوة الصندوق، شرف تمثيل الدولة السورية، الدولة التي لم يفهم معظم المعارضين الوطنيين احتياجاتها المطابقة لكينونتها التاريخية، بينما يعمل «المعارضون» المرتبطون بأعدائها على تحطيم الدولة وكينونتها معاً.

_ 2_


إيران هي الحليف الإقليمي الكبير الموثوق لسوريا. هذه الحقيقة تحولت إلى آلية لا يمكن تعطيلها في الجيوسياسية الشرق أوسطية، إلا أنني وجدتُ الرئيس يركّز على الحليف الروسي أولاً، في كل تحليل ومقام.
أحببتُ ذلك الخطاب؛ رئيس سوريا ورئيس روسيا... كتفاً بكتف!
روسيا! روسيا! (فلاديمير) بوتين! رنينُ الكلمات وظلالها أهمّ من التفاصيل، سوى أن الرئيس لا ينسى، لحظة، غطاء الفيتو في مجلس الأمن، والدعم المتعدّد الأشكال، والتحالف الذي أصبح عضوياً بين الدولتين. حقّقت الفدرالية الروسية، مجدداً، موقعها الممكن والضروري في القطبية العالمية، إلا أن روسيا _ كما يقول الرئيس _ «تتفوّق سياسياً».
الأهم من الصلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، هي الصلات الروحية؛ يكشف الرئيس عن لقاءٍ حميم مع زعيم الكرملين الذي يفور وجدانه بكرامة الروح الشرقية. قال بوتين للأسد: «هذا الغرب يريد إلحاقنا وتغريبنا. نحن نخوض معه إذاً صراعاً حضارياً».
في الروح، لا يجتمع بلدان مثل روسيا وسوريا. إنها إرادة الله تلك التي مهّدت لـ«بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق» أن تمنح الروس، الروح الأرثوذكسية. وهي إرادة الجغرافيا التي تجعل من دمشق خندقاً متقدماً للجبهة الروسية. يقول الرئيس: «سياسة روسيا نحونا لا تحددها قاعدة استراحة وصيانة بحرية، يمكن موسكو أن تحصل عليها في تركيا أو سواها؛ إنما العلاقة بين البلدين حضارية واستراتيجية»؛ حضارية في هذا الانتماء المشترك المدني إلى شرق السلام والإخاء والتعددية الدينية والعرقية في مواجهة الغرب الامبريالي العدواني الإقصائي، واستراتيجية لأن الدولتين تواجهان التحديات المعادية نفسها، وتبحثان، من موقعين مختلفين، عن الذات في السياق نفسه، سياق بناء النظام العالمي الجديد.

_ 3_


الرئيس مرتاح كلياً للجدار الروسي. غير أن عامل القوة الرئيسي هذا يظل ثانوياً إزاء ارتياحه إلى قدرة المجتمع السوري على تخطّي المؤامرة الخارجية للتفكك الداخلي، «صمدنا بفضل وحدة شعبنا ووعيه الوطني»، و«بفضل جيشنا». لكن المعركة مع الإرهاب صعبة، جراء التدفّق المستمر للإرهابيين على البلاد. لا يتحدث الرئيس، هنا، بلغةٍ انتصارية، بل بواقعية القائد العام للقوات المسلحة التي تخوض حرباً طويلة ومضنية؛ تلك الواقعية الواثقة بالقدرة على دحر المعتدين.

_ 4_


«جنيف 2»؟ «نحن مستعدون» يقول الرئيس، لكن هل يستطيع التحالف الغربي _ الخليجي تشكيل وفد ذي صدقية؟ هذه هي الشجرة التي علّق عليها أعداء سوريا: ما يسمى «الائتلاف» وأضرابه لا يمثّلون أحداً في الداخل السوري؛ ليست لديهم قوة جماهيرية، بينما قوة الجماعات المسلحة تتبع لشبكات «القاعدة» الإرهابية.
«الجيش الحر»؟ يتفكك. «بعضه يعود إلى صفوف الدولة والجيش العربي السوري، وبعضه يتخلى عن السلاح، وبعضه ينضمّ إلى الجماعات الإرهابية».
ليس في الميدان الآن سوى الدولة الوطنية _ في الحكم والمعارضة الداخلية _ من جهة، والإرهاب من جهة أخرى، ولا حوار مع الإرهاب، بالطبع. والحوار الوحيد، الممكن والمطلوب، هو بين السوريين لتأكيد الثوابت الوطنية، وتأصيل المشتركات، ومن ثم المنافسة في انتخابات حرة هي التي ستحدد الأوزان السياسية لكل القوى والاتجاهات والتيارات.


_ 5_


نستعيد معركة مطلع الثمانينيات مع الرجعية الدينية الإخوانية؛ لقد جرى حسمها _ بسرعة نسبية وفي حدود أقل الأضرار _. أفلم تلعب صرامة القائد الراحل حافظ الأسد في تحديد هوية الدولة السورية، اقتصادياً واجتماعياً وأيديولوجياً، الدور المركزي في كسب الحرب؟
كان الأسد الكبير واضحاً: «لا مكان للرجعية في سوريا التقدم والاشتراكية».
يقول الرئيس بشار: «أنا اشتراكي أيضاً». قالها كمَن يفكّر في مصاعب أن يكون اشتراكياً وسط الضغوط المتعددة التي واجهتها الخيارات السورية في العقد العالمي للنيوليبرالية التي تندحر الآن.
«خيار سوريا نظام اقتصادي مختلط». يقرّ الرئيس بثلاثة أخطاء (1) الفشل في تطوير القطاع العام، (2) التعجّل في سياسات وإجراءات اقتصاد السوق، «كان ينبغي أن تكون أقل سرعة وأكثر تدرّجاً»، (3) التركيز على الاستثمارات الرأسمالية الكبيرة على حساب المؤسسات المتوسطة والصغيرة. ويلحّ على أن توجّه سوريا الاقتصادي _ الاجتماعي اللاحق سوف يأخذ العبرة وسيركز على القطاعات المنتجة: الزراعة والصناعة، ويحسّن أداء القطاع العام.

_ 6_


يخرج المرء من الحوار مع الرئيس حول الهوية الاقتصادية _ الاجتماعية لسوريا باستنتاج مفاده أن الاتجاه لم يُحسَم بعد. لا يتعلق الأمر بقرار الرئيس بقدر ما يتعلق بالوضع الفعلي للاقتصاد وضعف النمو الاقتصادي إزاء النمو الديموغرافي واحتياجاته. كذلك، كما نعرف، هناك صراع القوى الاجتماعية وصراع التيارات الفكرية والسياسية حول مستقبل سوريا، المرهون، في رأينا، بالخلاص من فوضى الأنماط الاقتصادية وإخضاع العملية الاقتصادية برمّتها لسيطرة الدولة في إطار مشروع تنموي اجتماعي.

_ 7_


من الواضح أن موازين القوى الاجتماعية ــ السياسية التي أفرزتها الحرب، تسمح بالنضال الجدي المثابر لانتصار الخيار التنموي ــ الاجتماعي في سوريا أولاً، بما يؤدي إلى انتصاره في دول المشرق كلها، ويفتح الطريق أمامها، بالتالي، نحو صيغة اتحادية.
ويتطلّب نجاح القوى التقدمية في المضيّ على هذا المسار، أولاً، القطع مع الأيديولوجيا الليبرالية المعادية للدولة الوطنية، ثانياً، القطع مع الحلول الاقتصادية _ الاجتماعية الجاهزة، سواء تلك المرتبطة بمرحلة القطاع العام التقليدي أو بمرحلة اللبرلة (3) تخيّل ودراسة تصميم نموذج اقتصادي _ اجتماعي جديد، مبدع يتطابق مع الاحتياجات السورية، معياره الأساسي سيطرة الدولة على المجال الاقتصادي _ وليس، بالضرورة، من خلال الملكية _ وإنما في تحديد الأولويات ورسم الخطة وتقديم الحماية والرعاية للقطاعات المنتجة وضمان العدالة الاجتماعية.


_ 8_


ربما نذهب إلى التفكير في نموذج يستلهم التجربة الآسيوية، (أولوية الصناعة وقطاع صناعي خاص يخضع لخطة الدولة ويتمتع بحمايتها ودعمها) رفقة تطوير القطاع العام ومنع الخصخصة في حقول الخدمات الأساسية.

_ 9_


ليس بناء النموذج التنموي هذا قضية فنية يحسمها الخبراء _ وإنْ كانت الاستعانة بالخبرات المتنوّعة الاتجاهات ضرورة _ بل قضية سياسية يحسمها الصراع الاجتماعي في إطار الدولة الوطنية، والشرط الأول لانتصار هذه القضية تكوين جبهة تضم اليسار والتيارات الاجتماعية البعثية، والصناعيين الوطنيين والفلاحين والاتحادات النقابية والقوى الشابة المعبّرة عن الجديد التقدمي في المجتمع السوري.
فأين سيكون موقع الأسد في السجال الاجتماعي السياسي؟ يقول الرئيس إن خياره «الشعب السوري الذي يتكوّن، في أغلبيته، من العمال والفلاحين».

_ 10_


الرئيس، في شخصه وموقعه، قوة تقدمية لسوريا.