دقوا جدار أفئدتنا وصرخوا ولم يكن لهم من مجيب. الموت غرقاً في رمال الصحراء أو في لجة الأمواج سيّان. ونحن تماماً مثل أبو الخيزران، عاجزون حتى النخاع.
تقول أسطورة اللؤلؤ إنه دموع الآلهة التي سقطت في البحر محفوظة بأكفان من المحار. وتقول أساطير الهنود الحمر، فلسطينيو القارة الأميركية، إن اللآلئ هي قطرات المطر الأولى في بداية الخلق، وإن الله كافأها على تواضعها بأن جعلها كذلك لأنها استصغرت نفسها حين انهمرت في الماء العظيم لبداية الخلق. وتقول أسطورة الفلسطينيين والسوريين إن هناك 400 روح ابتلعتها شواطئ جزيرة ليمبادوسا الإيطالية وحولتها إلى لآلئ مكفنة بالملح والمحار. غادروا، بعد أن حاولوا صد الريح بأجساد ما عادت تقوى على الرياح، ركبوا الموج ولم يعلموا أن مصيراً ما بانتظارهم كما كان بانتظار عبّارة إندونيسيا. ظنوا أن بحر ليبيا قد يكون أرحم من أكل القطط والكلاب في مخيمهم المسلوب المنكوب. لم يعلموا أنهم هناك في ليبيا، سيجدون «ثواراً» من طراز آخر، ثواراً من «موديل» 2013 جرى تعميمه وتنظيمه وترقيمه ليواكب ربيعاً أمسى خريفاً قبل بدئه، فكانت رصاصات الموت بانتظار مركبهم وأجسادهم. هو الموت الذي منه تفرّون يلاقيكم. للوهلة الأولى أبى القلم أن يخطّ شيئاً. وماذا يكتب وكيف يصف هذا الحزن المتجمع بين الآه والآه؟ بين البارد واليرموك؟ هي نفس الحكاية ونفس الآه ونفس الوجع، يجمعنا الانتماء إلى فلسطين، وتجمعنا أيضاً كل نظرة حيرة في عيني أب يكوّم أطفاله على رصيف الشتات، ويجمعنا السؤال المر لكل أم، أن كيف لها أن تغطي لحم أطفالها في برد العواصم؟ تجمعنا نكبة تأبى أن تنتهي وتترك بصماتها على حيطان كل مخيم، كأنها قررت مطاردتنا في كل زاروب، وتعرف كيف تتسلل حتى إلى أحلامنا كوابيس تؤرق نومنا، كأنها أقسمت أن لا تتركنا حتى آخر رضيع. من أزعجه أن يكون المخيم وطناً مؤقتاً؟ أو نافذة تطل على الذكرى والأمل، نشتم منها رائحة الزعتر وننسج ما يقيم أود أيامنا من حكايات الجدات لكي نحسّ ببعض الأرض تحت أقدامنا. لقد وطئت أقدامنا كل شبر يابسة على هذا الكوكب، ولم نجد مأوى نرتاح في كنفه، فهل لنا في عمق البحار ملاذ آمن؟! هل وجدتم لنا قاعاً رحيما يستر عوراتنا، وعشاءً أخيراً ومخدة لغفوة هانئة أخيرة؟! أيها الذاهبون من المجهول إلى المجهول، إذا قررتم العودة، فنحن ما زلنا بانتظاركم على قارعة الطريق. ستجدوننا حيثما وليتم وجوهكم؛ فالبحر من أمامكم والبحر من خلفكم. وللبارد نصيب من نهر وبحر، يأتيه الموت مرة إن فاض النهر على الخيم، ومرات من البحر، على شكل عدوان أو خبر عن هجرة أجهضت قبل برّ الأحلام. أيها البحر، جوف الماء ليس خزاناً لتطرقه أياديهم المستغيثة، جوف الماء، أيها البحر، لا جدار له.