غزة | صباح الخير حبيبي:أخيراً، جاء الصباح لنبدأ رحلة النهار الطويلة. أولاً، سأُحصي ما بقي من أولادي. أمس تحسستهم في العتمة. كانوا خمسة بعد أن «ذهب» محمود في حفلة إطلاق النار بين المعارضة والنظام. قلت ذهب، أقصد أنه قتل. رحل ولم أعرف من هو قاتله. ما التسمية المناسبة له؟ قولوا لي: أكان شهيداً أم قتيلاً؟
أم ماذا؟!
لن تصدقني يا أخي حين أقول لك إنني لا أجد الوقت لأفكر حتى في ذلك، وإنني الآن أستغل نومهم، فأكتب رسالتي هذه على باب الخيمة، مستضيئة بنور آتٍ من مكان ما، وأنا أفكر في الكذبة التي سأخبرهم إياها اليوم حين يجوعون، فأضع الرمل مع قليل من الحصى في الإناء على النار وأوزع عليهم خبزاً حطباً وقليلاً من الماء لأُصبِّرهم: «الطبخة يا أمي شوي وبتستوي!».
منذ فترة وأنا أحسّ بأنهم باتوا يكتشفون هذه الخديعة القديمة، خديعة طبخة البحص، لكنهم لا يملكون صوتاً ليصرخوا بي أن أكف؛ فقد باتوا نوعاً من جثث متحركة يا أخي ما بين الأرض وحرامات صيفية خفيفة!
«الحمد لله نحن بألف خير»، هكذا أجيبهم حينما يصدمونني بأسئلة كبيرة من نوع «أمي، أين أبي؟ لقد اشتقنا إليه، وهو؟ ألم يشتق لنا؟ أمي، حلمت بمحمود بيحلم فينا وهوي بالقبر؟ يامه، بيقدر محمود يتنفس وهوي نايم تحت الأرض؟ وين بيروحوا اللي بيموتوا يا إمي؟ هلق اللي بيموتوا، بياكلوا وبيشربوا؟».
هذا السؤال الأخير تحديداً فاجأني به كريم، أصغرهم. كريم لم يتجاوز الست سنوات من عمره الطري. ترددت في الجواب. أهو في عمر يستوعب؟ قررت أن لا أشغله بهذا فاجبته: «إيه بياكلوا وبيشربوا يا حبيبي، وبيحسوا فينا كمان». لكن جاء رده سريعاً كالبرق: «طيب إذا هيك، ليه ما بنروح لعندهم وبناكل معهم يا إمي؟ بطني بيوجعني كتير من هاد الخبز. هاد مو خبز أصلاً، هاد حجر حجر. والله!».
ماذا تفعل يا أخي حين يقول لك ابنك الصغير هذا الكلام؟ كيف تفسر له أن الأموات ليسوا أفضل حالاً منا؟ حضنته وقبَّلته وأنا أرتعش من هول الفكرة. لأكن صادقة معك. أفكر أحياناً بأفكار غريبة. أسأل نفسي: لم نعيش؟ أليس الموت أفضل لنا من هذه العيشة؟ تراودني أفكار مجنونة: ماذا لو قتلتهم وقتلت نفسي معهم؟ نعم، أعترف لك بأني أفكر كثيراً في الأمر. ثم ينبلج الصباح فأتعلل بالأمل. ثم ينقضي النهار وحالنا يزداد سوءاً. متى ينتهي كل هذا يا أخي؟ أتعلم؟! لأنه لم يعد الموت يُخيفني! لم تعد له أي رهبة بداخلي يا أخي. يكاد خبر الموت يصبح مريحاً. تقول في نفسك: «ارتاحوا...»، لقد بات خبر الموت الأقل إثارة للحزن بين أخبارنا والله!
«انطرني خمسة وبرجع كملك الرسالة خيِّي وع الماشي خليني أقلك: إني كتير اشتقت لأناديلك بهالكلمة!».
ألم أخبرك يا أخي أن الموت لا يُفاجئني أبداً، وأني صرتُ خبيرة في تقبل أخباره والتعايش معه؟ حتى باتت الجارات في الخيمات المجاورة يستعنّ بي كأم قوية وصلبة. هكذا يصفونني بينهن ويعزين أنفسهن بوجودي وبصلابتي. لست صلبة. أصبحت يابسة. ولكن سأقول لك سراً صغيراً: إنني جيدة في تمثيل الصلابة. جيدة لدرجة أقول لنفسي أحياناً: ليت أبي، رحمه الله، وافق لمّا قلت له إني أريد أن أمثّل بالتلفزيون!
ذهبت لأُوقظ أطفالي. كالعادة كانوا كسالى من تعب الجوع ومن هزال أجسادهم، يفتحون نصف أعينهم ويسألون السؤال الأهم بالنسبة إليهم: «ماما، في أكل اليوم؟ نحنا جوعانين كتير».
لكن كريم لم يسألني شيئاً. بقي ممدداً دون حراك. ذهبت أتفحصه، بدا جبينه بارداً تحت فمي، تسمعت إلى دقات قلبه. لا شيء! هززته. لاشيء أبداً. لا حرارة ولا صوت ولا نبض. كان هامداً، وجسده بارد مثل الثلج. لم أنبس ببنت شفة. كريم مدللنا أنا وأبيه، كريم ضحكة البيت، مذ وُلد وهو يبدو أكبر من عمره بكثير. يتحدث ويسأل كالكبار، لكن مهما قلنا عن تفتح الصغار، فإن احتماله لكل ما عانيناه كان احتمال طفل في عمره.
كيف لم أنتبه سابقاً إلى عظام صدره كم هي بارزة؟ كيف لم أنتبه إلى ساقيه ويديه التي صارت أشبه بعيدان الكبريت؟ كيف لم أرَ وجهه الشاحب مائلاً إلى الرمادي باهتاً لهذا الحد؟
«بهيك مواقف يا أخي، كنت تضمني وتهديني، كنت صديقي قبل ما تكون أخي، هلق مين رح يضمني؟ هلأ مين بدو يتحملني بلا تمثيل بلا صلابة؟
حسناً، سأُمزق جزءاً من باب الخيمة لأكفنه. سأدَّعي أمام إخوته أني ذاهبة به للطبيب، سأحفر له حفرة على مقاسه تحت الأرض، وأقرأ له فاتحتي وأبعثر القليل من سعادتي على القبر: ها قد ارتاح الصبي المدلل عند ربه، سيعرف الآن أن الأموات لا يأكلون ولا يشربون!».
ها قد دفنته بجانب قبرك الذي صنعته بنفسي لك يا أخي. يا إلهي، لقد تأخرت! علي أن أعود لأطبخ الرمل والحصى لأولادي الأربعة الباقين، وأخبرهم كذبات جميلة ليبتسموا، لحين ميسرة!