ما إن وصلت الأنباء الى تل أبيب عن تقدم في التسوية بين مجموعة «5+1» الدولية مع إيران في جنيف بشأن إيجاد حل للبرنامج النووي الايراني، حتى ارتفع الصوت المعترض والمستنكر أكثر، وسادت حالة من الغضب والاستياء العارمين إسرائيل. حالة عبّر عنها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي وصف أي اتفاق مرحلي أو جزئي لا يستند الى سلب إيران قدراتها على «الإنتاج النووي» بأنه خطأ تاريخي، وبأن أي تسوية على غير هذا الأساس ستمثّل «صفقة القرن» بالنسبة إلى إيران.
وأكد أن صفقة كهذه ستكون «سيئة جداً» للمجتمع الدولي ولإسرائيل على السواء.
ما هي مكامن القلق الإسرائيلي في صيغة جنيف؟ وهل هناك مبالغة مدروسة تهدف الى الضغط على الأطراف المفاوضة، أم هي تعبير عن مخاوف جدية حقيقية تنطلق من تقدير لمرحلة ما بعد الاتفاق، بأبعاده وتداعياته السلبية على إسرائيل؟
في هذا الإطار، يجب البحث عمّا يقلق إسرائيل، بعيداً عن انفلات إيران من العقاب، ومن ترسيخها كدولة «حافة نووية»، رغم الأهمية الكبيرة لتهديد إسرائيل، في هاتين الناحيتين.

التسوية بمعزل عن إسرائيل

اعتادت إسرائيل، خلال العقود الماضية، حقيقة وواقع أنها بوابة الولايات المتحدة في أي مقاربة لدول المنطقة، بمعنى أن الموقف الأميركي من الكيانات السياسية في الشرق الأوسط، دولاً أو قوى أو حتى أحزاباً، يتحدد ضمن اعتبارات ومصالح، تحتل إسرائيل موقعاً متقدما فيها، وفي أساسها موقف هذه الجهة أو تلك من حق إسرائيل في الوجود ومن أمنها ومصالحها. وأي جهة عدوة حقيقية لتل أبيب، كانت في الواقع عدوة وهدفاً للولايات المتحدة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً.
المفارقة الأساسية، من ناحية إسرائيل، أن الاتفاق الموشك على التبلور في جنيف، يجري عرضه وتداوله ونقاشه مع إيران الدولة التي ترى تل أبيب أنها تمثّل مصدر التهديد الأول لأمنها ولوجودها، وأيضاً تمثّل عمقاً استراتيجياً فاعلاً وداعماً لقوى المقاومة في المنطقة، في وجه الدولة العبرية وسياساتها، أي إن الاتفاق مع طهران، فيما لو أُنجِز بالفعل، سيمثّل خروجاً على السياسات الأميركية المتبعة منذ عشرات السنين، بل وربما أيضاً، تأسيساً لمعادلة جديدة في المنطقة.
بعبارة أخرى، تخشى إسرائيل من التوصل الى اتفاق مع إيران، من دون تدفيعها أثماناً على مستوى أمن إسرائيل و«حقها» في الوجود، إضافة الى الحد من تأثير إيران ونفوذها في الساحات المجاورة لها. هذا ما تقصده تل أبيب عندما تتحدث بصورة قاطعة عن رفضها للاتفاقات الجزئية مع إيران، من دون أن تتضمن الملفات الأخرى، بما بات يعرف «اتفاق المراحل» والخطوة مقابل الخطوة.
وكان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، علي خامنئي، هو من ضبط إيقاع المفاوضات وقطع الطريق على المساومة عندما حصر موضوع المفاوضات مع الغرب في القضية النووية، رافضاً ربطها بأي قضايا خلافية أخرى، إذ قال في تاريخ 3/11/2013 إن «المفاوضات الجارية مع البلدان الستة تختص فقط في القضايا النووية، وقد قلت في كلمتي في مدينة مشهد المقدسة بداية هذا العام إنه لا إشكال في المفاوضات حول موضوعات خاصة».
مع الإشارة الى أن ذلك لا يعني عدم إجراء اتصالات تتعلق بالساحات الإقليمية، ولكن ليس ضمن سياق التفاوض مقابل الملف النووي.
في كل الأحوال، أجملت صحيفة «إسرائيل اليوم» (8/11/2013) المقرّبة من نتنياهو جانباً من الميزة الاستثنائية للاتفاق مع دولة مثل إيران بالقول إنها «الدولة الوحيدة التي يمكنها أن تواصل شتم أميركا وحرق علمها، وفي الأسبوع نفسه تحصل منها على هدايا».
وعليه، الموقف الاسرائيلي من إيران يتجاوز البعد النووي بذاته، رغم أهميته القصوى، ليشمل الكثير من الملفات، سواء تلك التي تتصل بقدرات إيران وتطورها العلمي والعسكري أو بخياراتها الاستراتيجية وسياساتها ونفوذها وحضورها الإقليمي. وبعبارة أخرى، مشكلة إسرائيل هي مع النظام الاسلامي في إيران، الذي يعتبر وجودها ــ بحسب تعبير مرشد الجمهورية الاسلامية ــ «غير شرعي ولقيطاً». النظام الذي يوفر الدعم المادي والعسكري والسياسي لقوى المقاومة ولسياساتها وحضورها في المنطقة. من هنا، فإن أي تسوية جزئية مع الولايات المتحدة تتعلق بالملف النووي من دون أن تنسحب على موقف إيران من وجود إسرائيل ومن أمنها ومن دعم قوى المقاومة، ستكون موضع معارضة شديدة من الدولة العبرية.
أما ما الذي دفع الولايات المتحدة الى المقاربة الجديدة، والاتجاه الى عقد تسوية نووية مع إيران بعيداً عن السقف الذي حددته تل أبيب؟ فله مقاربة خاصة، علماً بأن واشنطن ما كانت لتلجأ الى التسوية مع إيران لو لم يتعذر عليها تحقيق ما تطالب به إسرائيل. والتعذر يمكن إجماله بجملة من الأسباب، وفي مقدمتها فشل الرهانات الاميركية على الضغوط الاقتصادية على إيران، والتي هدفت الى إنتاج ضغط داخلي يفرض على النظام الإيراني تغيير توجهاته النووية والاقليمية. أيضاً فشل الرهانات على إحداث تغيير جيوسياسي إقليمي يُسقط سوريا ويُضعف حزب الله وبالتالي إيران، إضافة الى مستوى التطور النووي التي تمكنت إيران من تحقيقه، والذي بلغ حداً بات الاستمرار التصاعدي فيه يحشر كافة الأطراف الدولية وإسرائيل أيضاً، إضافة الى السياسة المعتمدة من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وتوجهاتها وأولوياتها المستجدة، وموقع منطقة الشرق الأوسط فيها.

الإقرار والتكيّف

مع ذلك، في الملف النووي الايراني، الخلاف ضمن الاتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل ليس خلافاً تفصيلياً. فـ«الاتفاق التام» بين الجانبين على منع إيران من امتلاك و/أو إنتاج سلاح نووي (وللمفارقة تؤكد الأخيرة أنه ليس ضمن استراتيجيتها العسكرية)، ينطوي من جهة أخرى على خلاف كبير يعتد به، وهو ما جرى تظهيره أخيراً وبوضوح في أعقاب محادثات جنيف بين إيران والدول الست، وقرب الاتفاق على التسوية بين الجانبين.
وسبب التباين ينطلق من حقيقة أن الولايات المتحدة دولة عظمى لها مصالحها على امتداد الكرة الارضية، فيما الدولة العبرية دولة إقليمية. كذلك فإن قدرات الأولى على التكيّف مع الأخطار أبعد بكثير من تلك التي لدى تل أبيب.
من ناحية إسرائيل، حدد نتنياهو شروط أي تسوية مع إيران. فتل أبيب ترفض بالمطلق امتلاك إيران أي قدرة فعلية على تخصيب اليورانيوم، بأي درجة من الدرجات، كما تشدد على إغلاق منشأة فوردو بالقرب من مدينة قم، إضافة الى منشأة آراك للمياه الثقيلة، وإخراج كميات مادة اليورانيوم المخصبة الى خارج الأراضي الايرانية.
أما من ناحية الولايات المتحدة، فباتت بعد فشل الرهانات المشار إليه سابقاً، توافق على حق إيران في تخصيب اليورانيوم على أراضيها، على أن يخصص ذلك حصراً للأغراض المدنية، مقابل ضمانات فعلية، فيما بقية المطالب الاسرائيلية غير ملحوظة لدى الأميركيين.
نتيجة لذلك، يوجد اختلاف بين واشنطن وتل أبيب حول كل ما يتعلق بالتخصيب على الأراضي الايرانية، أضف الى الاختلاف على الخط الأحمر الذي يعني التهديد بأنه يتعين استخدام القوة العسكرية لإيقاف المشروع النووي الإيراني.
الشروط الأميركية، المختلفة عن الشروط الاسرائيلية، انطلقت واندفعت اليها واشنطن نتيجة لتعذر مواجهة النووي الإيراني بأساليب غير عسكرية، اتبعتها الإدارات الأميركية طوال السنوات الماضية ضد إيران، وهو ما دفع واشنطن الى تبنّي استراتيجية الاتفاق على مراحل، كنتيجة طبيعية لاستعداد أميركا للإقرار والتكيّف مع واقع تحول إيران الى دولة نووية. وهو ما يتعارض بنحو حاد مع الرؤية والاستراتيجية الاسرائيليتين في المواجهة مع إيران، وتبعاً لها في مواجهة حلفائها في المنطقة.

نهاية الخيار العسكري

أحد أهم التداعيات التي تخشاها إسرائيل من الاتفاق المتبلور مع إيران، أنه يسلب منها الخيار العسكري والتهديد به، وبالتالي يُفقدها أهم أدوات الضغط الموجودة لديها في مواجهة إيران. ولا تخفي تل أبيب خشيتها وقلقها من أن التوصل الى اتفاق إطاري أو نهائي، سيمثّل نهاية للرهان على تورط أميركي في مواجهة عسكرية مع إيران، كما كانت تدفع وتراهن إسرائيل عليها، تأسيساً على إقرارها بعجزها عن خوض المواجهة وحدها، بما يحقق الأهداف المؤملة. وهو ما يفسر الانكفاء الاسرائيلي طوال السنوات الماضية عن مهاجمة إيران.
أملت حكومتا نتنياهو منذ عام 2009 أنه بالرغم من التطور الإيراني على المستوى العلمي والنووي والعسكري، فإن القوة العسكرية الأميركية قادرة في نهاية المطاف على التعامل مع هذه القدرات. إلا أن اندفاع أميركا وتوجهها نحو اتفاق يقرّ بإيران نووية، ينهيان الرهان على الخيار العسكري الأميركي. وبالنتيجة سيجعلان أي مغامرة عسكرية إسرائيلية أكثر كلفة وأقل جدوى. وهو ما عبرت عنه صحيفة «هآرتس» (10/11/2013) بأن «تهديدات نتنياهو باتت بلا ذخيرة».
وبطبيعة الحال، تخشى تل أبيب من أن انتهاء أو تراجع فعالية التلويح بالخيار العسكري ضد إيران سينعكس سلباً على المعادلات الاستراتيجية والإقليمية بما يقلق تل أبيب، خاصة أنه يعزز من قوة ردع محور المقاومة، من طهران مروراً بسوريا وصولاً الى حزب الله في لبنان.

انهيار نظام العقوبات

في الوقت نفسه، ترى تل أبيب، وكما يعبّر العديد من المسؤولين الاسرائيليين، وعلى رأسهم نتنياهو، أن أي اتفاق يشتمل على تخفيف العقوبات عن إيران، وفي المرحلة الأولى من المفاوضات، حتى لو كان جزئياً، يمثل ضربة كبيرة جداً لكل الجهود التي بذلت في السنوات الماضية، وأدت الى فرض منظومة عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، كان لها وقعها الثقيل على الداخل الإيراني. وترى تل أبيب أنه بمجرد أن يقدم الغرب على تخفيف العقوبات، فإنها ستنهار من ناحية عملية.
وأحد أول التداعيات السلبية من ناحية إسرائيل، أن عشرات المليارات المجمدة في الخارج ستصل الى إيران، الأمر الذي سيؤثر إيجاباً على مسيرة التطور العملي والعسكري والاقتصادي في إيران.
الى جانب ذلك، فإن الرفع الجزئي أو المخفف للعقوبات، يعني في ما يعنيه أيضاً إنقاذاً لإيران من ضائقتها الاقتصادية، وهو ما سينعكس إيجاباً على الداخل الإيراني وعلى جمهور الإيرانيين، وبالضرورة سيؤدي الى تراجع ومحو طائفة الرهانات على تهديد النظام من البوابة الاقتصادية، عبر تأليب الجمهور الايراني على نظامه. وبالتالي فإن أي تحسن في وضع إيران الاقتصادي سينعكس حكماً على تطوير قدراتها التي تهدد العمق الإسرائيلي، وعلى قدرات حلفائها في المنطقة. أي بمعنى آخر، الثمن المدفوع في هذا المجال هو الأمن الاسرائيلي.
وعليه، في ضوء ما تقدم، وبرغم سياسة التهويل التي تتبعها القيادة الاسرائيلية التي تهدف الى رفع مستوى الضغوط على حلفائها وتوجيه رسائل الى أعدائها، إلا أن ذلك لا يقدح في حقيقة الأبعاد الاستراتيجية التي ينطوي عليها اتفاق الدول العظمى مع إيران، لجهة نجاحها في انتزاع اعتراف دولي بها كدولة نووية، من دون تقديم أيّ أثمان تتصل بخياراتها الاستراتيجية، على مستوى القضية الفلسطينية وقوى المقاومة وعلاقاتها الإقليمية. أضف الى إسقاط رهانات وخيارات كان يلوَّح بها في مواجهتها، وتكريس وتعزيز المعادلات الإقليمية التي تعزز موقع وموقف محور المقاومة، أضف الى تحسن وضعها الاقتصادي والسياسي والشعبي في الداخل الايراني.
في الختام، ينبغي التأكيد أن أي صيغة اتفاق «نووي» بين إيران والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي أقرب الى بلورة معادلة ضمن سياق الصراع بين طرفين أو أطراف، وخاصة أن هناك العديد من الساحات الإقليمية كانت وما زالت وستبقى ميدان مواجهة بين طهران ومعها محور المقاومة، في مقابل واشنطن ومعها أتباعها وحلفاؤها.



170 مليار دولار

ذكرت مصادر أمنية إسرائيلية لوكالة «فرانس برس» أمس أن التكلفة الاجمالية للبرنامج النووي الايراني بلغت 170 مليار دولار.
وأشارت هذه المصادر الى أنه تم «استثمار» 40 مليار دولار «في السنوات العشرين الأخيرة في إنشاء وتشغيل المنشآت النووية».
وأضافت المصادر أن إيران خسرت «130 مليار دولار بسبب العقوبات المفروضة عليها منذ عام 2012».
وقالت المصادر إن بين هذه الخسائر 105 مليارات دولار مرتبطة بالحظر المفروض على بيع النفط الإيراني، و25 مليار دولار على العقوبات المالية على المصارف والتجارة والصناعة وخسائر في مجالات التنمية والاستثمارات.
وبحسب المصادر، فإنه «إضافة الى ذلك، استثمرت إيران ملايين الدولارات لمساعدة النظام السوري الذي يقتل شعبه، وما بين 8 الى 10 مليارات دولار كمساعدات لحزب الله، وما بين 1,3 و1,8 مليار كمساعدات لحركتي حماس والجهاد الاسلامي الفلسطينيتين في قطاع غزة».
(أ ف ب)