الطريق إلى جبال القلمون السورية تمر عبر عرسال. البلدة البقاعية التي يعني اسمها «عرش الإله»، في اللغة الآرامية، باتت ساحة أساسية من ساحات المواجهة الدائرة على أرض الشام. خطّ التماس الذي رسمته مع بلدة اللبوة يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم. في الطريق إليها، تمرّ بمُجسّم للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي، وبصور شهداء لحزب الله سقطوا أثناء تأديتهم «واجبهم الجهادي» في الداخل السوري. راياتٌ عاشورائيةٌ سوداء تملأ شوارع اللبوة. تنعطف يميناً، فتتراءى أمامك جبالٌ شاهقة تتآكلها الكسّارات. دقائق تفصلك عن مقصدك. لن تجد مَعلَماً ينبئك بالوصول الى عرسال أفضل من كساراتها. «الحجر العرسالي»، هنا، رمزٌ يُعادل شجرة الأرز لبنانياً. يُعرف بصلابة تُعدّ من أبرز سمات أبناء البلدة البقاعية. يستوقفك حاجزٌ للجيش، ثم تُكمل صعوداً. نحن الآن رسمياً في عرسال. البلدة التي لطالما عاشت على هامش الوطن وجدت نفسها فجأة في قلب الحدث السوري. على جنبات الطرق تتوزّع عشرات الخيم التي تؤوي نازحين سوريين. بعضها يضم عائلات مسلّحين يقاتلون في الداخل السوري. تنقسم البلدة المتعاطفة مع السوريين على نفسها بين مرحّب بالنازحين ورافضٍ لوجودهم. السيارات الرباعية الدفع والشاحنات الزراعية الضخمة تُعدّ، أيضاً، من معالم البلدة. إذ إنّها أكثر من ضرورة، ليس في عمليات نقل الصخور المقتلعة من جرود البلدة وحسب، بل في عمليات التهريب التي تنشط ليل نهار عبر الجرود بين لبنان وسوريا. أما اللباس العسكري المنتشر بكثافة هنا، فتخاله لوهلة زيّاً رسمياً لأبناء البلدة وللسوريين الوافدين إليها. تُجري اتّصالاً بمضيفك السوري، لكنّه لم يكن قد وصل بعد.
تتوقف شاحنة تستقلّها مجموعة شبّان مغبّرين بشعورٍ طويلة ولحىً مرخية. يردّون على التحية بأحسن منها. يكسر «الوسيط» الحاجز النفسي. يقول أحدهم إنهم مقاتلون، وإن بينهم جرحى ينقلونهم الى أحد «مشافي» البلدة. نرافقهم فيدلفون إلى أحد المساجد. ينقل الجرحى إلى مستوصف داخل المسجد، فيما يدخل الباقون لأداء الصلاة. أمام باحة المسجد، يسرّ أحدهم: «نحن إسلاميون لا جيش حرّ». ولدى الاستفسار عن الكتيبة التي يقاتلون تحت لوائها، يردّ «نحن نصرة»! يتجمّع آخرون حولنا. يشيدون بابن عرسال بالشيخ مصطفى الحجيري المعروف بـ «أبو طاقية» الذي «يبذل فوق استطاعته في سبيل الثورة والدين». ويحكون عن تواضعه وعطفه على أهاليهم وأطفالهم من النازحين.
يقول أحدهم إنّه هو وثلاثة آخرون معه عناصر في «لواء فجر الإسلام». يتابع «أبو علاء» حديثه. يقول إنّه من غوطة دمشق، لكنّه كان يقاتل في حلب قبل القدوم إلى القلمون. وعمّا يفعله في لبنان، يجيب بأنّه «في زيارة للأهل». ينضم ثالث إلى الحديث: «أنا من مجاهدي جبهة النصرة». نسأله عن الأوضاع، فيُجيب: « أبشر. وعدنا الله أن النصر سيكون حليفنا». يشير الى «ارتكابات الجيش الحّر التي تُسيء إلى الثورة». وعن جبهة القلمون، يؤكّد أن «النصرة» هي «الأكثر حضوراً هناك إلى جانب حركة أحرار الشام والكتيبة الخضراء»، كاشفاً أنّ «الدولة الإسلامية (في العراق والشام) وصلت الى المنطقة حديثاً». يسأل إن كنا نعرف أحداً من «النصرة»، فنعطيه أسماء أشخاص كان بعضهم عناصر في «فتح الإسلام» قبل مبايعة «الجبهة». يُشيد الرجل بمقاتلي «فتح الإسلام» الذين «نفروا من لبنان للقتال في أرض الشام»، مشيراً إلى أنّهم «الأكثر خبرة عسكرياً». يصفهم بأنّهم «مقاتلون أشدّاء سلّموا أرواحهم لله». ولدى السؤال عن إمكانية الانتقال إلى جبال القلمون لإعداد تقارير صحافية، يعد خيراً، ونتبادل حساب «السكايب» على أمل اللقاء. نخبره بأننا، في كل الأحوال، في صدد الدخول قريباً، فيردّ، قبل أن يغادر محذّراً من استدراجنا لاختطافنا طمعاً في فدية، ويُعدِّد أسماء لمتورطين في خطف صحافيين أجانب استُدرجوا عبر عرسال.
يرن الهاتف مؤذناً بوصول المضيف السوري. نستقل السيارة إلى أحد مخيمات النازحين. شابٌ ثلاثيني، شارك في معارك القصير. تُقيم زوجته وابنتاه في عرسال، فيما يقضي وقته متنقلاً بين لبنان وسوريا، ويقاتل في صفوف مجموعة إسلامية. يُخبرنا بأنّ الشبان الذين سينقلوننا إلى سوريا غادروا عرسال، وأن علينا قضاء اليوم في ضيافته على أن ننطلق فجر اليوم التالي. نُصرّ على ضرورة تدبر الأمر فوراً مغتنمين فرصة الهدوء على الحدود. يسارع الى إزالة لوحات سيارتنا مقرّراً العبور بها إلى الأراضي السورية. ننطلق في درب وعر لتفادي حواجز الجيش اللبناني. السيارة التي نستقلّها لم تكن رباعية الدفع، إلّا أن المضيف أخبرنا بأنّه في أحيانٍ كثيرة يجتازون الحدود بمثلها. يُطلقون عليها تسمية «تاكسي». كل السيارات الصغيرة في عُرفهم تسمّى «التاكسي». نمر عبر مقالع صخرية وكسّارات. الجرود العرسالية تمتد على مساحات شاسعة. تصادف هنا شاحنات محمّلة ببضائع مهرّبة. وتلاحظ كثرة الدراجات التي قد يصل عدد راكبيها أحياناً الى عائلة مؤلفة من أربعة أشخاص. يواكبنا «درّاج» سوري يلعب دور الكشّاف لتأمين الطريق. لم تجر الرحلة على ما يُرام. تسببت وعورة الطريق في إحداث ثقب في خزّان زيت المحرّك. وبمساعدة بعض الأصدقاء تمكنّا من إعادة السيارة إلى البلدة حيث ركنّاها بانتظار فجر اليوم التالي. في طريق العودة، استوقفتنا «دورية أمنية لأبناء المنطقة»، استفسروا عن هوياتنا ثم تركونا في حال سبيلنا.
لم تتأخّر الشمس طويلاً لتُشرق. وصل «المُكَب» (سيارة «بيك أب» رباعية الدفع) باكراً. حزمنا عدّة التصوير وأغراضنا ثم انطلقنا. وعبر الطريق الوعرة نفسها، سارت السيارة تتخبّط في الجرد. منخفضاتٌ وهضاب لا تُعدّ. طبيعة تُشبه إلى حدٍّ بعيد ما يظهر في أفلام الغرب الأميركي. تجتاز صحراء صخرية لنحو ثلاثة أرباع الساعة، تدخل بعدها الأراضي السورية. في منتصفها، في الطريق، نصادف مواكب مسلّحة مُهرّبين وطفّاراً، وكذلك متسللين خلسة بين حدود الدولتين. يُلقي كل من صادفناه التحيّة. نلفت المضيف الى لطفهم، فيردّ ضاحكاً: «إحساسٌ غريزي بأننا من الفصيلة نفسها. لو عرفوا أنّك غريب ووحيد لشلّحوك وربما قتلوك»، وأضاف: «يا أخي هول قطّاع طرق. بس بيعرفوني». تنتهي الطريق الوعرة الى طريق معبّدة بالإسفلت. أشجار الكرز تنتشر على جانبي الطريق، فيُبادر صاحبنا بالقول: «أهلاً بك في الأراضي السورية، دقائق ونُصبح في فليطا».

*غداً: ماذا يقول مطلق الصواريخ على الهرمل؟

يمكنكم متابعة رضوان مرتضى عبر تويتر | @radwanmortada





أميرا «القاعدة» على الحدود

حسب المعلومات المتوافرة، فإنّ أميري «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية» في القلمون الشيخ «أبو مالك السوري» والشيخ «أبو عبد الله العراقي» تردّدا غير مرّة إلى الأراضي اللبنانية. وتكشف تقارير أمنية أنّ قيادات في كل من «جبهة النصرة» و«داعش» تتنقّل بحرية بين لبنان وسوريا، وأنها تنسق مع شخصيات دينية لبنانية في أمور تتعلّق بالشؤون الحياتية للنازحين السوريين، إضافة إلى تنسيق عالي المستوى في الشقين اللوجستي والأمني. وتذكر التقارير أنّ شيخاً بارزاً في عرسال يلعب دور الوسيط في هذه المسألة، وهو يُعدّ الذراع اللبنانية للمجموعات السلفية التي تدور في فلك «القاعدة».



الأطرش «شهيد الغدر والخيانة»

أمام المسجد العرسالي، وبناء على معرفة مسبقة، نقابل أحد المتّهمين في تفجيري الضاحية ممن وردت أسماؤهم في بيان وزير الدفاع فايز غُصن. يؤكّد أنّ «لا رابط بين أفراد المجموعة التي ذكرها وزير الدفاع»، مشيراً إلى أنّه لم يلتق عمر الأطرش سوى مرّة واحدة. أما باقي الأسماء، فـ«صدّقني لا أعرف معظمها. وبالنسبة إلى القصّة التي نُتّهم فيها، هي أكبر منّا. لسنا في حجم من يعدّ سيارة مُفخّخة لإرسالها الى الضاحية الجنوبية وتفجيرها». ويضيف: «صحيح أننا شاركنا في كمين (جريمة) وادي رافق. ولكن كل عرسال شاركت في قتل العسكريين الذين نفّذوا الكمين الذي استهدف الشهيد خالد حميد، ظنّاً أنهم عناصر من حزب الله متنكّرين بزي الجيش».
في أحد أحياء البلدة، ترتفع فوق أحد المنازل صورة ضخمة لعمر الأطرش وسامر الحجيري المتهمين بالضلوع في تفجير بئر العبد، واللذين قُتلا إثر انفجار سيارتهما في جرود البلدة في ١١ تشرين الأول الماضي. ذُيّلت الصورة بعبارة «شهيدا الغدر والخيانة». يقول أحد أقرباء الأطرش إن «عملاء أبلغوا حزب الله والنظام السوري بتحرّكات عمر فقتلوه». يوضح أن «عمر كان برفقة سامر الحجيري على متن سيارتهما. ولدى مرورهما على طريق اعتادا سلوكه، فوجئا بحجارة تقطع الطريق. ترجّل سامر لإزالتها، فاستُهدفت السيارة بصاروخ أدى إلى مقتلهما على الفور». وعما أُثير من تشكيك في مقتل الأطرش، يردّ: «ليت ذلك صحيح. ليته لم يمت. والده وعمّه لملما أشلاءه وعثرا على فردة حذاء تحتوي على جزء من رِجله، فيما بقيت جثّة سامر شبه مكتملة لأنه كان خارج السيارة».