طرابلس | تتسارع وتيرة الأحداث في ليبيا؛ فبعد عام من الركود السياسي الذي لم تشهد فيه البلاد سوى نزف اقتصادي ضخم تمثل في تضخم الأسعار وزيادة عجز في الميزانية العامة للدولة، وتوقف متقطع لضخ النفط على عدة مراحل، تشهد اليوم انقساماً واضحاً في الشهد السياسي، يأمل المراقبون أن لا يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى تقسيم ليبيا.
ففي الوقت الذي أُعلِن فيه تشكيل لجنة لانتخاب لجنة الستين التي من المقرر أن تكتُب دستور ليبيا المرتقب، والبدء فعلياً في تسلّم طلبات الترشيح، أُعلن في الشرق الليبي تشكيل حكومة فدرالية تضم في طياتها 24 حقيبة وزارية مقسمة بين مدن الشرق وقبائله.
الركود السياسي الذي استمر عاماً، فجأة تحول إلى تظاهرات في المدن الكبرى تطالب ببناء الدولة. مفتي الديار الليبية صادق الغرياني، بعد أن اعتبر تظاهرات أهالي بنغازي السابقة شقاً للصف الوحدوي الليبي، عاد وطالب أهالي العاصمة بالخروج في تظاهرات تطالب بفك أسر طرابلس من رهن الميليشيات المسلحة، وهذا ما حصل عقب صلاة ظهر الجمعة الماضية. إلا أن المفتي سرعان ما طالب الأهالي بالرجوع إلى بيوتهم بعد أن قابلتهم الميليشيات بالرصاص الحيّ الذي أودى بحياة 47 مدنياً تراوح أعمارهم بين 16 ربيعاً و 57 عاماً ومئات الجرحى.
ما حدث في هذه التظاهرة السلمية التي انطلقت رافعة الأعلام البيضاء متجهة نحو منطقة «غرغور» في قلب طرابلس، مطالبة الميليشيات المسلحة بإخلاء المنطقة السكنية، أعادت إلى الأذهان المشهد الدموي الذي شهدته مدينة بنغازي منتصف حزيران الماضي عندما واجهت كتائب «درع ليبيا» المتظاهرين بنفس الإسلوب القمعي.
إلا أن خطورة الحدث تعود لأهمية مدينة طرابلس من الناحية السياسية. والمفارقة الغريبة أن يعلن رئيس الوزراء علي زيدان، بعد ساعات من بدء قتال الشوارع أن عدد القتلى ثلاثة فقط، وأن التظاهرات لم تكن سلمية، مكتفياً بالدعوة إلى التحلي بالصبر. ثم يتراجع عن موقفه بعد ساعة في تصريح لوكالة «رويترز»، كاشفاً أن عدد القتلى تجاوز عشرين قتيلاً في اليوم الأول من المعارك، وأن التظاهرات كانت سلمية.
في الواقع، التظاهرات التي بدأت في منطقة غرغور لم تتوقف في مكانها، بل انطلق سكان العاصمة في الميادين يطالبون الكتائب المسلحة بالعودة إلى مدنهم وإخلاء العاصمة من هذه المظاهر المسلّحة. إلا أن الجميع تفاجأ بعد إعلان بعض كتائب مدينة مصراتة مساندتهم لكتائب منطقة غرغور التي تسيطر عليها عناصر من مدينة مصراتة الساحلية (شرقي طرابلس).
أما قادة الكتائب، فقد برروا موقفهم بأن منطقة غرغور السكنية ممتلئة بأتباع النظام السابق، مستندين في الأصل إلى أن المنطقة كانت معقلاً لضباط في الجيش الليبي، وأن دور الكتائب «تطهيرها».
وتحدثت أنباء متواترة عن أن وكيل وزير الداخلية خالد الشريف، أصدر أمراً للشركة الليبية العامة للخدمات بإزالة المنطقة السكنية عن بكرة أبيها، مبرراً هو الآخر الأمر بأن المنطقة كانت تعود في الأصل لـ«أزلام» القذافي. قرار الشريف أثار موجة واسعة من السخط في الأوساط الاجتماعية الليبية؛ إذ كانت ردود الفعل تتمحور حول أن يكون القرار انتقامياً، وخصوصاً أن وكيل الوزارة ينتمي في الأصل إلى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة (التي كانت ترتبط بتنظيم القاعدة).
لكن في المقابل، رأى البعض قرار الشريف بأنه من الحكمة ما يكفي لفض النزاع بإزالة الحي وقطع دابر الميليشيات والمتظاهرين معياً.
وفي الوقت الذي وصلت فيه تعزيزات من الناحية الشرقية إلى طرابلس لدعم الميليشيات أو الكتائب المسلحة، انتقلت المواجهات نحو إحدى أكبر المناطق السكنية في العاصمة، حيث وصلت إلى منطقة تاجوراء واحتدم الصراع هناك.
وبدا موقف الجيش الليبي في وضع حرج، إذ دعت وزارة الدفاع المواطنين إلى السماح لوحدات الجيش بالدخول لفض الاشتباكات، تطبيقاً لقرارات سابقة.
أما ردود الفعل، فقد كانت مختلفة في جوهرها، ففيما أكد مكتب الأوقاف في المجلس المحلي لمدينة طرابلس أن ما حدث جريمة، وأن التظاهرات ما كانت أن تخرج إلا بسبب الظلم الذي تعرض له المدنيون، مشيراً إلى أن منطقة غرغور تضم من أبناء مصراتة من أجرموا ويجب معاقبتهم، أكد قادة الميليشيات أن عملهم مستمد من الشرعية الثورية. وقال آغا باشا، أحد قادة الكتائب، إن طرابلس لم ترَ الحرب بعد. ومع بدء أهالي طرابلس بتنفيذ عصيان مدني تمثل باقتحام مقر المؤتمر العام (البرلمان)، قرر المجلس المحلي لمدينة مصراتة سحب كتائبه من العاصمة ووزرائه من الحكومة وتجميد عضوية نواب المدينة في البرلمان.
وبين الكر والفر والتصعيد، يخشى مراقبون دوليون من استمرار أزمة عدم الثقة بين الأطراف السياسية، وخصوصاً أن الحروب الأيديولوجية في ليبيا انتقلت من المنابر الإعلامية إلى المناطق السكنية، في الوقت الذي يكتم الجميع فيه أنفاسهم خشية تكرار مأساة أفريقية أخرى شبيهة بالمشهد الصومالي.