مناطق عديدة خرجت عن سيطرة الدولة السورية خلال السنوات الخمس الماضية، بعضها فضّل قطع صلاته بالدولة ومؤسساتها لأسباب مختلفة، وبعضها الآخر حافظ على «شعرة معاوية» لضمان عدم حدوث شلل في القطاعات الاقتصادية والخدمية. وهذا ما أفضى تدريجياً إلى حدوث تحولات اقتصادية واجتماعية في جميع تلك المناطق، انعكست بأشكال مختلفة على حياة السوريين المقيمين فيها.
فمن جهة اضطر سكان تلك المناطق إلى البحث عن طرائق جديدة تساعدهم على التأقلم مع الظروف الجديدة في معيشتهم وتأمين مستلزمات حياتهم اليومية، ومن جهة ثانية عملت المجموعات المسلحة على «تسخير» وسلب إمكانات تلك المناطق بحجة تأمين «متطلبات» المواجهة العسكرية، لتكون النتيجة بالنهاية تأسيس «كانتونات» متشرذمة اقتصادياً وخدمياً واجتماعياً.
أكبر نسبة
للفقر سُجّلت في محافظة الرقة


أزمة طويلة

في مدينة جاسم وقراها في ريف درعا، لم يعد غياب الكهرباء يمثّل مشكلة لكثير من السكان، فما عجزت عنه سنوات من حملات التوعية لوزارة الكهرباء، والحديث الحكومي المستمر عن أهمية مشاريع الطاقات المتجددة، أنجزته الحرب في أقل من عامين.
هناك، وكما يصف متابع للشأن الاقتصادي يتردد على مسقط رأسه في مدينة جاسم، لا يكاد يخلو سطح منزل من الألواح الشمسية، التي تتباين تبعاً لحجم الاستطاعة المراد توفيرها وللوضع الاقتصادي للعائلة، فعائلات تحدّد غايتها بتوفير الإنارة فقط لمنازلها، وعائلات أخرى تحرص على توفير الطاقة لتشغيل بعض الأدوات المنزلية الكهربائية.
البديل العصري الذي فرضته ضرورات التأقلم مع متغير غياب التغذية الكهربائية الرسمية والتوقعات بطول الأزمة، لا تكمن أهميته فقط في اعتماد نحو 80% من سكان تلك المنطقة عليه بحسب تقديرات المصدر، وإنما لكونه يمثل أنموذجاً عن طبيعة التحولات الاقتصادية الجارية في المناطق الحدودية. فمثلاً الألواح الشمسية ومستلزماتها الأخرى من بطاريات وأجهزة «انفرتر» وغيرها، ذات المنشأ الصيني غالباً، يجري تأمينها مباشرة عبر الحدود المفتوحة مع الأردن، كما هو حال جميع المناطق الحدودية الأخرى، ولتباع للمستهلكين المحليين وفق أسعار صرف الدولار مقابل الليرة.
وفي هذا السياق تشير التقديرات الأولية إلى أن وسطي إنفاق العائلة الواحدة في مدينة جاسم وقراها على شراء وتركيب الألواح الشمسية ومستلزماتها يصل إلى نحو 640 دولارا، أي إن هناك مبالغ ضخمة أنفقت في هذا المجال.
لكن مثل هذا التحول «الإيجابي»، إن صحت تسميته، يبدو نادراً وسط تحولات يتخذ معظمها طابعاً سلبياً، من تراجع المؤشرات المتعلقة بالصحة والتعليم والدخل، إلى انحسار الحريات الشخصية وفرض سلوكيات وتعاليم ترفض الأخر والعلم، فضلاً عن النقص الكبير في السلع والمواد الغذائية والضرورية في بعض المناطق التي تشهد اشتباكات مستمرة وتعاني الحصار. فمثلاً تشير بعض البيانات الإحصائية الصادرة حديثاً إلى أن أكبر نسبة للفقر سجلت في محافظة الرقة 91,6%، تلتها محافظات إدلب، دير الزور، وحمص، وهي محافظات خارجة بمعظمها عن سيطرة الدولة أو كانت كذلك، كما سُجّلت أكبر نسبة في عدد الأطفال الذين لم يلتحقوا بمدارسهم في محافظتي الرقة ودير الزور 95%، ثم جاءت حلب بنسبة 74%، فريف دمشق بنسبة 49%، وإدلب بنحو 48%. صحيح أن المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة تعاني هي الأخرى الفقر والحرمان والغلاء وشيوع اقتصاديات العنف، إلا أن ذلك لا يقارن بما هو شائع بالمناطق، التي يصر البعض على تسميتها «المحررة».

أولوية المعركة

تحكم المجموعات المسلحة بإدارة شؤون المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، أفضى إلى حدوث ترد حاد في الأوضاع الاقتصادية والخدمية، وذلك نتيجة عاملين، الأول افتقاد عناصر هذه المجموعات للخبرة والكفاءة في التعاطي مع قضايا الشأن العام وإدارة المناطق والثاني حرصها على تسخير جميع الإمكانات المتاحة للمحافظة على قوتها وانتشارها، هذا إضافة إلى سعي بعض هذه المجموعات لجمع ثروات من خلال ممارستها لأعمال خطف وسرقة ونهب للممتلكات العامة والخاصة. وبحسب الباحث الاقتصادي زكي محشي فإنّ الأزمة أدّت على نحو عام إلى «إعادة هيكلة الاقتصاد في جميع المناطق السورية على أساس الأنشطة المرتبطة بالعنف، والتي تخدم مصالح قوى التسلط الساعية إلى استمرار الأزمة، حيث استخدمت قوى الأمر الواقع الإكراه والخوف والعصبية لتحويل الموارد الاقتصادية لخدمة الانفاق العسكري لهذه القوى بشكل أساسي». وأضاف في حديثه لـ«الأخبار» أنه تجري أيضاً «إعادة توزيع الثروة بالإكراه من خلال انتشار أنشطة السلب والنهب والابتزاز والتهريب والسرقة، إضافة إلى الانخراط في النزاع المسلح. وهذا أدى إلى تآكل القطاعات الاقتصادية المنتجة من زراعة وصناعة لمصلحة نمو الاقتصادات المرتبطة بالعنف، وبالتالي إفقار غالبية أفراد المجتمع لمصلحة القلة المسيطرة على اقتصادات العنف».
ورغم الإيرادات التي يجري تحصيلها من مصادر متعددة، شرعية وغير شرعية، إلا أن إنفاقها يجري وفق أولويات تتراجع فيها حصة القطاعات الخدمية إلى مراتب متأخرة، إذ وفق ما يؤكد الباحث محشي فإن «الانفاق العام (شبه العام) حقق في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة نمواً في حصته من الناتج المحلي الإجمالي لسورية من 2.1% عام 2012 إلى 13.2% عام 2015، إلا أن غالبية هذا الانفاق يذهب لتسديد رواتب وأجور المنخرطين في العمل العسكري على حساب حاجات المجتمع وتطلعاته. وبالتالي لا تحمل هذه الاقتصادات بذور الاستدامة، وخاصة مع غياب المؤسسات، المساءلة، الشفافية، سلطة القانون، وعشوائية القرارات الاقتصادية التي تهتم على نحو أساسي بتحويل الموارد الاقتصادية لخدمة العمل العسكري وتعزيز سلطة قوى الأمر الواقع». وأشار إلى أن «جزءا كبيرا من انفاق الجماعات المسلحة يعتمد على الإنتاج غير الرسمي وغير المخطط للنفط والغاز، الذي قدر بنحو 5.2 مليارات دولار لنهاية عام 2015، وهو ما يعد خسارة في ثروة البلاد، جرى تجييرها لخدمة آلة العنف».