سارة الماضيعلى بعد أميال فقط، تعبر الحدود من دمشق الى بيروت تاركاً وراءك كل شيء. تحدق عبر زجاج السيارة إلى الطريق، فيخيل إليك لوهلة أن كل ما على جانبيه يطلب منك الرحيل. ووسط قسوة هذا الطلب، وحده كان صوت قلبك يسألك: لكن، إلى أين أمضي؟
تصمت كأن شيئاً ما عقد لسانك، وأنت تعاود النظر حولك مجدداً، تقول لنفسك ربما لا شيء يستحق البقاء! فحتى الذكريات الجميلة مزقتها القذيفة وتشتّت أهل البيت الواحد، الوطن الواحد.
تشق السيارة بك طريق دمشق ــ بيروت من الجهة اللبنانية، تتنفس الصعداء لأنك ابتعدت عن الخطر قليلاً، لكن مذيع نشرة الأخبار في راديو السيارة لا يكف عن تذكيرك بأسباب مغادرتك وهروبك، «استشهد 50 شخصاً وأصيب آخرون بانفجار سيارة مفخخة»... «استشهاد امرأة داخل منزلها جراء قذيفة هاون ضربت عن طريق الخطأ في مخيم اليرموك بالقرب من العاصمة دمشق».
لم أكن الوحيدة التي هربت من الموت المحتم. أستذكر المشهد عند نقطة الحدود اللبنانية. هناك، ما إن وقفت لأنتظر دوري في المعاملات، حتى انتبهت فجأة الى طول الصف الذي أقف فيه! أذهلتني أعداد اللاجئين في الطابور الخاص بالفلسطينيين: طابور طويل طوييييل.. أنا آخره، أما أوله فأشعر كما لو أنه يمتد الى هنا منذ عام النكبة، وما بين أوله في عام 1948 وآخره اليوم 2013 كنا جميعاً في الانتظار واحداً. أشخاص يحملون بقايا منازلهم، وآخرون دهمتهم القذيفة، فلم يستطيعوا أن يحملوا إلا أجسادهم ماضين الى اللاشيء .
ببطء يمضي الوقت في طابور الجوازات. أخرجت من حقيبتي ما يذكّرني في كل لحظة بأنني لاجئة، دفعت بالوثيقة نحو الموظف العسكري، فرماني هذا الأخير بنظرة لطالما لم أفهمها: هل يوجد في هذه الوثيقة ما يستدعي الخوف مني؟ أم تراه يخاف أن يطيب لي المكان فأبقى؟ كم وددت أن أخبره: لا تخف، فأنا لست باقية، لي وطن هناك وإليه أعود.
كنت أودّ أن أخبره أننا شعب كتب علينا أن ننتزع الحياة من صدر الموت، ولا ذنب لنا سوى أننا لم نعرف من الوطن سوى حكايات الأجداد ورواياتهم.. كنت سأخبره أننا مثله، لكن ثمة من يرسمنا على نحو مثير للشفقة، وآخرون يرسموننا على نحو مثير للرعب.. كنت سأخبره الكثير، إلا أن مشهداً لعائلة مكوّنة من أم وخمسة أطفال جعلني أصرف النظر عن الكلام.
كانت الأم تحمل وثيقة كالتي أحملها، جلست متعبة تنوء بحملها بعيداً، بعد أن علا صوتها مع الجندي الذي يبدو أنه طلب منها الابتعاد.. وسرعان ما انخرطت في البكاء!
شو في يا خالتي؟
ما بعرف ليش يا خالتي صار وجودنا تقيل ع قلب العالم.
تحدثني المرأة كيف أنها وأولادها لم تختر أياً من أقدارها، بدءاً من خروجها من المخيم بعد أن قتل زوجها وهو يحاول تهريبهم خارجه في ظل اشتباكات ساخنة بين مؤيدين للنظام ومعارضين له.. وصولاً إلى الحدود هنا حيث يرمقها عسكري الجوازت بنظرات تشكيكية وكأنها مجرمة.
تستطرد المرأة وهي تروي لي ما يعانيه الفلسطيني من قهر وظلم وغربة، وكيف هو يعيش في كل لحظة في موقع المتهم. لم تكن تحكي ما لا أعرفه، ولكنها كانت ترويه بمرارة جديدة عليّ... ربما هي نتيجة فارق الوجع الآتي من فارق العمر والتجربة.
وددت لوهلة أن أصبّرها بكلماتي، وأن أقول لها إن هناك وطناً ينتظرنا ليحتضن مرارتنا، وإننا سنعود إليه قريباً، قريباً جداً. لكن صراخ الطفلة الصغيرة بين يديها، وربما جوعها، جعلها ترمقني بابتسامة حزينة، قبل أن تغيب لتبحث عن مكان غير مكشوف من أجل إرضاع طفلتها. أقل من عام مرّ على هذا اللقاء، لكنه ظل، كما كل تفاصيل خروجي حية، في ذاكرتي. كما لو أن كل شيء حدث أمس.
اليوم تذكرت المرأة وأنا أقرأ عن مبادرة تحييد المخيمات الفلسطينية عن الصراع السوري. ولبضع لحظات أستعير مشهداً من مخيم اليرموك وأحاول رسم تفاصيله كما يحلو لي: أجدني واقفة على ذلك الرصيف أمام مدرسة الفالوجة في شارع المدارس. الرصيف الذي حمل معه ذكريات الطفولة الجميلة قبل أن يقتلوها. وعلى الرصيف المقابل رأيتها، تلك المرأة على الحدود اللبنانية، كأني نفضت كل الغبار عن ذاكرتي. رأيت حتى تفاصيل خطوط وجهها ولون ملابسها... كما لو كانت رؤية وليس ذكرى، وفكرت في أن أسألها الكثير. لكن صوت المذيع في الراديو جعل من حلمي أشلاءً تناثرت في داخلي: إليكم النبأ الآتي: قتلت إحدى الأمهات اليوم وهي تحاول العودة مع أطفالها الخمسة الى المخيم، وذلك جراء قذيفة هاون أصابت دوار البطيخة..