أحمد عزام * أيام الدراسة الجامعية في عام 2006 ذهبنا لزيارة إحدى صديقاتنا المسيحيات في حمص، وعندما تعرفنا إلى أهلها سألَ والدها صديقي «أنت من وين؟» فأجابه صديقي: أنا فلسطيني. فابتسمَ الأب مرحباً ثم أردفَ قائلاً بشكل عفوي «شوف يا إبني، نحنا هون ما منفرق بين مسيحي ومسلم أو سني أو علوي أو شيعي أو درزي أو فلسطيني... كلكون ع راسنا». يومها ضحك الجميع من فكرة حصر الفلسطيني ضمن خانة الطائفة الدينية. لكن يبدو ان لهذه الزلة مدلولات واسعة. حيث أصبحت «الفلسطينية» أقرب في الأذهان إلى طائفة دينية، لوناً ضمن ألوان طيف المجتمع السوري. وبرأيي، إن وضعه في هذا الطيف ليس بسبب مدنية الدولة السورية، بل بسبب فقدان المخيمات دورها الحقيقي الذي يجب أن يُختصر بأنه «بندقية عائدة».
بعد بداية التظاهرات في دمشق وريفها عام 2011 صار مفهوم «الأقلية الفلسطينية» يتجلى أكثر فأكثر. ولا يمكن أن يَستشعر هذا التجلي إلا من كان يعيش خارج المخيمات، تماماً كالعلوي أو الدرزي الذي يعيش خارج تجمعاته الخاصة. ومع ذلك، أثبتت هذه التظاهرات السلمية أن التعايش الموجود في المجتمع السوري لم يكن وهماً، خاصة أن المظاهرات التي خرجت كانت لا تزال تطالب بالحرية وبعض الإصلاحات، وغالباً ما كانت تُرفع صور الرئيس بشار الأسد كتعبير عن أن المطالب لا تخص إسقاط النظام في سوريا. وما زلت أذكر كيف كان يجتمع جارنا أبو عبدالله «العلوي» الى جيرانه في الحي وهم يتحدثون حول ما يجري دون أي حساسية تُذكر. مع أن عدد الشهداء كان يرتفع يومياً في درعا لم ينعكس هذا الأمر مطلقاً بأي شكلٍ على الأقليات التي كانت تعيش في هذه الأحياء الدمشقية البسيطة، لأن الإعلام وقتها لم يكن ينبري لحملات التأجيج الطائفي التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه الآن.
وبالنسبة إلى اللاجئ الفلسطيني بشكل عام، خاصة من هم خارج المخيمات، فإن المعادلة التي فرضت نفسها في ما بعد هي في أن الفلسطيني ليس إلا... «أقلية سنيّة»!
من المضحك والمؤلم في آن واحد سماع هاتين الكلمتين متلازمتين، لأنهما قسمتا الفلسطيني إلى قسمين: فهو في الجزء الأول يعتبر اللاجئ الذي يمتلك حقوقاً وواجبات قدمتها له دولة، يقودها حزب واحد يدخل ضمن إطار الممانعة والمواجهة مع إسرائيل. وفي الجزء الثاني، هو ينتمي إلى الأكثرية السنية التي أُلصقت بها تهمة الانتفاض على الأقلية الطائفية الحاكمة ــ علماً بأن الكثير من العلويين كانوا منخرطين ضمن التظاهرات السلمية.
ومع تحول الصراع تدريجياً وتغير مصطلحاته ومفاهيمه من الثورة السلمية أو التظاهرات السلمية إلى الثورة المسلحة أو الصراع المُسلَح، أصبح ينُظر إلى الفلسطيني كأنه مُطالب بموقف حاسم! وهذا الموقف يجب أن يتخذ فرضاً! فإما مع وإما ضد، إذ لا يمكن حتى الكلام الحيادي أن ينقذكَ ضمن هذه التوليفة الصعبة. لن ينقذك مثلاً أن تقول لأحد المعارضين إنك مع المطالب المحقة للشعب السوري وأن هناك أخطاءً ارتكبتها الدولة ولكن الأمور لا يمكن أن تعالج بالسلاح، لأنه مباشرةً سينسى مقولة «بلاد العربِ أوطاني» وسيعتبرك خائناً للشعب الذي احتضنك كلاجئ مطرود من أرضه! وكذلك لا يمكنك أن تقول لأحد المؤيدين الكلام ذاته، لأنه سيعتبرك خائناً للدولة التي مَنَّت عليك بالمخيمات وأعطتكَ الحقوق التي يملكها المواطن السوري.
الجدلية الأكثر إيلاماً ظهرت مع تبدل الأدوار في الفصائل الفلسطينية التي لم تُفلح يوماً إلا في الإثراء على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته. فحماس التي تبنّت وجهة النظر السنيّة وانضمت الى صعود حكم الإخوان المسلمين في العالم العربي، وقفت إلى جانب ثورة الشعب السوري. وهي بذلك قامت بخيانة حقيقية للنظام الذي أعطاها امتيازات، وجعل لها صولة وجولة في مخيمات اللجوء السورية، فأصبح أغلب المؤيدين للنظام السوري ينظرون إلى الشعب الفلسطيني كأنه كله حماس.
والعكس صحيح أيضاً في ما بتعلق بالمعارضين، خاصة بعد انخراط القيادة العامة ضمن عمليات عسكرية مع الجيش السوري في المنطقة الجنوبية لدمشق. فأصبح أغلب المعارضين ينظرون إلى الشعب الفلسطيني كأنه كله ينتمي إلى القيادة العامة. ولكن هذه الجدلية ذاتها حققت للفلسطيني نوعاً من التوازن، بحيث يمكنه أن يحوِّل نظرة الريبة تجاهه إلى نظرة اطمئنان بقليل من التحايل. وهذا ما قاله لي أحد الأصدقاء ممن يعيشون خارج المخيم، حيث إنه عندما كان يمر بسيارته بالقرب من حاجز للجيش السوري كان يقول «الله محيي الجيش»، وعندما يصل إلى حاجز للمعارضة كان يقول «على راسي يا أبطال»، وبذلك ينجو من فكرة أنه متهم حتى تثبت «إدانته» .
أغلب الأحياء البسيطة في دمشق وريفها هجرتها الأقليات خوفاً من أي عمليات انتقامية قد تحدث ضدها، إضافة إلى تعرض البعض منهم لمضايقات وتهديدات من قبل عناصر الجيش الحر. وللأسف الشديد، تم استغلال هذه الأزمة من قبل بعض السكان الأصليين أصحاب البيوت في هذه المناطق، لإخراج جميع العائلات التي كفلَ لها القانون السوري أن تستملك البيوت المودعة ضمن خانة الإيجار القديم والتي كان يُدفع مقابلها إيجار زهيد. وقد نال قسم من السكان الفلسطينيين، كما غيرهم من الأقليات، نصيباً من هذا الظلم، علماً بأن هناك عائلات فلسطينية وعائلات من الطائفة الاسماعيلية كانوا في ركب التظاهرات المطالبة بالحرية، لكن هذا لم يردع أصحاب النفوس الضعيفة عن إخراجهم من بيوتهم تحت ذريعة أنهم من مؤيدي النظام السوري. وكما اتجهت كل أقلية إلى مكان تجمعها، كذلك لجأ الفلسطيني إلى مخيمه، مخيم لم تنقذه جدلية الأقلية السنية من البقاء منطقة محظورة السلاح واعتباره نقطة محايدة.
أن تكون فلسطينياً مؤيداً للثورة السورية أو مؤيداً للنظام السوري، أو حتى لو كنت ترى الوضع بنظرة محايدة، فهذا يرجع إلى الجزء السوري المكتسب ضمن الشخصية الفلسطينية، ولا علاقة له بأي امتدادات أخرى، حتى وإن كانت مؤثرة. لكن خصوصية الوضع الفلسطيني وتقسيم الدولة المناطقي سيفرض عليك دائماً أن توضع في خانة إما مع «هم» وإما ضد «هم». و بين هُم وهُم لن تشفع لك مئة عام أخرى من اللجوء في أن تعبر عن رأيك كإنسان ينتمي إلى هذه الجغرافيا! فاللاجئ سوف يبقى لاجئاً حتى تحقيق حلم العودة، أما غير ذلك؟ فهو مجرد «أقلية طائفية».
* كاتب عربي من سوريا



الحرب الدائرة في سوريا تسببت في تهجير نحو ثلاثة أرباع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، فمن 530 ألف فلسطيني سوري مسجلين لدى الأونروا، هاجر ما يقارب الـ70%، إلى 80%، توزعوا حسب بعض المعطيات، إلى 50 ألفا في لبنان، 5600 تقريبا في الأردن، ونحو 6500 في مصر. كما أن هناك من ذهبوا إلى السودان وليبيا وتركيا، بأعداد متفاوتة، إضافة إلى عشرات الآلاف ممن هاجروا إلى أوروبا عبر البحر. لكن، وحسب الأونروا، فإن الشريحة الأكبر من مهاجري اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، هم من الشباب وأصحاب الكفاءات العلمية والمهنيين.