يبدو الحديث عن «استهداف مسيحيي سوريا» نوعاً من الترف في وطنٍ يُستهدَفُ كلُّ ما فيه، بدءاً بمفهوم الوطن نفسِه. على أنّ الوقائع المتسارعة ـــ وبشكل خاص في النصف الثاني من العام الحالي ـــ تجعلُ التسليم بحصول هذا الاستهداف أمراً لا مناصَ منه، ولكن بوصفه انتقالاً إلى مرحلةٍ أشدّ وضوحاً ومباشرةً في مراحل استهداف المجتمع السوري برمّته.
في المبدأ، لا يمكنُ بحالٍ من الأحوال فصلُ حادثتي اجتياح معلولا (أيلول، وتشرين الثاني)، عن الهتافات التي ترددت في بدايات الأزمة السورية: «المسيحية ع بيروت». وكما خرجت أصواتٌ في مرحلة الهتافات تؤكد أن «النظام هو الذي روّج لتلك الهتافات»، تعالت أصوات شبيهة في مرحلة الاجتياح ترى أن «النظام يقفُ وراء دخول التكفيريين إلى معلولا». على أرض الواقع، كان نتاج الفترة الممتدة بين الاستهداف بالهتاف والاستهداف المباشر، مغادرة حوالى 450 ألف مسيحي لوطنهم السوري، وفقاً لنيافة البطريرك غريغوريوس الثالث لحام، فيما قارب العدد الإجمالي للسوريين الذين هُجّروا من مناطقهم (خارج البلاد وداخلها) حاجز الـ6.5 ملايين، وفقاً للأمم المتحدة. وبعملية حسابية سريعة يتضح أن نسبة السوريين المسيحيين الذين هُجّروا إلى العدد الإجمالي تقارب 10%، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود إحصائية دقيقة لعدد المسيحيين الذين نزحوا داخل البلاد. وهي نسبةٌ تُماثل النسبة التقريبية لعدد مسيحيي سوريا إلى العدد الإجمالي للسكان قبل الأزمة. على النسق ذاته، فإن حالات استهداف رجال الدين المسيحيين لا يمكن فصلها عن عمليات استهداف رجال الدين السوريين بشكل عام.
كذلك تتآخى الكنائس التي طالها التخريب مع المساجد المُخرّبة. وتنضمّ المواقع الأثريّة المسيحيّة التي خُرّبت ونُهبت إلى قائمة المواقع الأثريّة السوريّة التي ذاقت مصيراً مماثلاً. مواقع لم تكن إسلاميّة ومسيحيّة فحسب، بل يعودُ بعضُها إلى ديانات ومعتقداتٍ عدّة، من بينها الوثنيّ أيضاً. تأسيساً على ما سبق، يبدو جليّاً أن فصلَ مكوِّن سوريٍّ عن باقي المكوّنات يبدو ضرباً من العبث، من دون أن يحول ذلك بيننا وبين التسليم بأنّ قيام المجموعات التكفيرية باجتياح مناطق بعينها قد جعلَ قضيّة استهداف المسيحيين في بؤرة الضوء. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تلك المجموعات دأبت على استهداف كلِّ مكونات المجتمع السوري، والدماء التي لم تجف في عدرا بعد أوضح دليلٍ على ذلك. هكذا، وفي ظل استفحال المدّ التكفيري، وتزايد سطوة المجموعاتِ المتطرّفة، ستغدو المعادلة الأدق: سوريّون في مواجهةِ التطرّف. ولعلّ قراءةً سريعةً لتاريخ المنطقة ستكون كفيلة باستنتاج أن هذا التطرّف هو المسؤول على نحو متتالٍ عن كبريات حوادث الاستهداف التي طالت فئاتٍ وأعراقاً ومعتنقي معتقداتٍ بعينهم. وليست المجازر التي طالت الأرمن والآشوريين على أيدي الأتراك ببعيدةٍ عن الذهن، مثلها في ذلك مثل «بوغروم إسطنبول». وإذا كان تكفيريّو اليوم يؤسّسون استهداف مخالفيهم على مزاعم «إسلاميّة»، فإنّ خير داحضٍ لهذه المزاعم سنجده في شهادة «ميخائيل السرياني»، بطريرك السريان الأرثوذكس في القرن الثاني عشر، الشاهد على وصول الجيش الإسلامي إلى بلاد الشام. حيث يقول: «لأنّ الله هو المنتقم الأعظم، الذي وحده على كل شيء قدير، والذي وحده إنما يبدّل ملك البشر كما يشاء، فيهبه لمن يشاء، ويرفع الوضيع بدلاً من المتكبّر، ولأنّ الله قد رأى ما كان يقترفه الروم من أعمال الشر، من نهب كنائسنا ودياراتنا، وتعذيبنا بدون أيّة رحمة، فإنما قد أتى من مناطق الجنوب ببني إسماعيل، لتحريرنا من نير الروم... وهكذا كان خلاصنا على أيديهم من ظلم الروم وشرورهم وحقدهم واضطهاداتهم وفظاعاتهم نحونا» (نقلاً عن دراسة للدكتور إدمون رباط). ويبقى التذكيرُ واجباً بأنّ القادمين من مناطق الجنوب في تلك الأيام كانوا يعتنقون منهج محمّد بن عبدالله، لا منهجَ محمد بن عبد الوهاب.