ريف دمشق | على مدخل الضاحية، من الناحية الغربية، يمكن تخيّل سيناريوات المجازر الأخيرة. الجيش يرابط في كل مكان حول ضاحية عدرا العمالية. يتمركز شمال المدينة ويتقدم في اتجاه المخبز الذي أصبح شهيراً باسم «المحرقة»، إثر استخدامه في إحراق عدد من سكان البلدة المنكوبة على يد مسلحي «النصرة» و«جيش الإسلام» الذين اجتاحوا المنطقة. تقدّم الجيش يستمر بطيئاً في الجزيرة الثانية. أنباء من سكان الجزيرة الرابعة عشرة عن حصار 100 عائلة في الجزر الرابعة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة، من دون أدنى متطلبات الحياة.
يطلّ مدخل المدينة على طريق دمشق ــــ حمص الواقع غرباً. تقدم الجيش يبدو معدوماً على طرف المدينة الغربي، فيما تكشف المباني العالية الضاحية كلّها، وقد تمركز القناصون أعلاها. لم تحصل حالات قنص في اتجاه الطريق من هذه الأبنية التي لا تفصلها عنه سوى مئات الأمتار. الطريق الدولي غير متأثر بالاشتباكات القريبة، وتتحرك سيارات قليلة عليه، بعد إعادة فتحه منذ أيام. ضابط ميداني يؤكد صعوبة المعارك في المنطقة المكتظة بالمدنيين، ولا سيّما في اتجاه وسط المدينة، حيث يتمركز المسلّحون في المخفر وجامع التوحيد، معتمدين على السكان كدروع بشرية في وجه أي قصف متوقع للجيش السوري. ويؤكد لـ«الأخبار» أنّ المعارك لن تحسم في البلدة سريعاً بسبب وجود مدنيين قرب مواقع تمركز المسلحين.
مدنيون متنكرون... للنجاة
«لا يزال بعض من ظننّاهم شهداء على قيد الحياة»، عبارة قالها أحد السكان المحاصرين في الجزيرة الرابعة عشرة عبر الهاتف. أنباء تناقلها بعض الناجين من المجازر عن إحداث «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» سجناً في الجزيرة الحادية عشرة، أطلق عليه اسم «سجن التوبة»، لحبس «المتعاونين مع النظام»، وفيما تتكاثر الشائعات عن أوضاع الجزيرتين الثالثة والرابعة، يؤكد الوضع الميداني أنّ الجيش لا يزال خارج الجزيرتين السكنيتين اللتين تشهدان دفاعاً عنيفاً من المسلحين المتمترسين داخلهما. «هدوء حذر في ظل اشتباكات خفيفة على أطراف البلدة اليوم»، هذا ما يقوله جندي على أحد الحواجز القريبة من الطريق الدولي. تضارب الأنباء حول ما يجري في البلدة يقلق ذوي المحتجزين داخلها، إلا أنّ نظرة سريعة على أطرافها الغربية تؤكد عدم حدوث أي قصف، وأن الأصوات القليلة التي تصل إلى الأسماع ناجمة عن اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة. وزيرة الشؤون الاجتماعية كندة الشماط أكّدت إجلاء 5000 مدني من الضاحية ونقلهم إلى «مكان آمن، منوّهة إلى عدم تواصل أي منظمة دولية مع الوزارة بخصوص الملف الإنساني في عدرا العمالية السكنية. لم تسلم مساعي الوزارة من الاتهامات، حيث وجّه ذوو المحتجزين انتقادات للوزارة أنها سعت إلى إخراج النازحين في عدرا العمالية، وليس أهالي الضاحية المتخفين في منطقة التوسع. مدنيون من الداخل شرحوا لذويهم كيف قضت عائلات عدة برصاص مسلحي المعارضة، خلال عملية النزوح الجماعي من الضاحية السكنية. الطريق الذي نوّه أبناء عدرا العمالية إلى أمان الخروج عبره هو طريق المنطقة الصناعية باتجاه معمل الاسمنت، حيث تقف قوات من الجيش السوري بانتظارهم. معاناة المدنيين الباقين من أبناء عدرا داخل منطقة التوسع يختصرها رامز، ضابط في الجيش السوري من سكان ضاحية عدرا العمالية، إذ حاول الرجل تهريب زوجته الحامل وابنتيه إلى منزل أحد جيرانه النازحين من منطقة طلب التحفظ عن ذكرها، منعاً لاستدلال القتَلة على مكان زوجته. انتظر رامز في منزله وصول المسلحين، مسلّحاً بمسدّسه الحربي فقط. وبعدما خرجت عائلته مع عائلة جيرانه، دون علمه، للتخفي في أحد الملاجئ، اجتاح المسلحون الجزيرة التي يقيم فيها. يشرح رامز فصول مأساته، حين استطاع الهرب وهو يلتفت إلى الخلف، نادماً على تهريب عائلته. لم يكن يتوقع أنه سيتمكن من الهرب، بعدما حاصر المسلحون المباني وصار جُلّ ما يفكر فيه أن ينجو بعائلته، ولو واجه الموت وحيداً. المسلّحون ينادون على زوجته عبر مكبرات الصوت بين المطلوبين لتسليم أنفسهم، إلا أن جارتها أعارتها حجاباً و«أعطتها الأمان»، قائلة: «اللي بيصير عليكي بيصير علينا». قصة المرأة تشابهها عشرات القصص الأخرى من ضاحية عدرا العمّالية لنساء «مطلوبة رؤوس» أقاربهن لدى مسلحي المعارضة. وذلك يستلزم ارتداء جميع النساء الحجاب، كنوع من «إصلاح المجتمع دينياً، وفق قواعد جبهة النصرة»، حسب قول دلال، إحدى الناجيات من المجازر الأولى. «المجزرة مستمرة»، تضيف ابنة السويداء، وتتابع: «نجوتُ عندما ادعيتُ أنني من درعا، بتقليدي اللهجة الحورانية. كان الزحام شديداً ومن الصعب عليهم تمييز الناس عن بعضهم بعضاً». تكمل المرأة فصول المأساة قائلة: «قُتل عدد من جيراني المنتمين إلى ذات أصولي وطائفتي، مع عدد من النازحين الذين أنجدوهم وآووهم لديهم. لا يزال البعض متخفّياً هُناك، إلا أن الموت يحاصرهم من كل اتجاه».
بيان «براءة الذئب»
وبرغم استمرار المأساة، إلا أن ليلة الاجتياح الأولى تبقى كابوس الهاربين من محرقة المسلحين، بعدما نفذت روائح أجساد الآباء المحترقة إلى أنوف أبنائهم، وسمعوا صراخهم. بعض المدنيين ممّن بقي أقاربهم في عدرا العمالية، نقلوا عن لسانهم مطالبتهم الجيش بقصف المنطقة على رؤوسهم للنيل من المسلّحين الذين يستخدمونهم دروعاً بشرية. «شدة اليأس التي يمرّ بها سكان عدرا العمالية في الملاجئ بلا طعام أو شراب أو أدوية، تبرر مطالبتهم الجيش بحسم المعارك لوضع حدّ لسوء أوضاعهم الذي يتزايد مع مرور الوقت»، يقول أحمد، وهو طالب جامعي من سكان عدرا.
وبالتزامن مع الاشتباكات المتواصلة في الضاحية، كانت كتيبة «جند الملاحم» التابعة لـ«الجبهة الإسلامية»، قد أصدرت بياناً، قبل 10 أيام، تتبرأ فيه من المجازر المرتكبة في الضاحية السكنية، متهمة الجيش السوري بقصف المدنيين والاستعداد لاقتحام المدينة بعد قطع الاتصالات والكهرباء والمياه عنها.
وشدّد البيان على المدنيين عدم الخروج من الضاحية، حتى تأمين ضمانات بطريق آمن لهم، خشية «قتل الجيش كل من يحاول الخروج باتجاهه من المدنيين». ولفت البيان إلى استعداد «الجبهة» لاستقبال وفد من أقارب السكان للاطمئنان إلى ذويهم، متبرئاً من كل المجازر المرتكبة التي اتُّهم بها المسلحون، ومؤكداً أن الهجوم على «أطراف عدرا العمالية لم يأتِ إلا بسبب فتح طريق لأبناء الغوطة المحاصرة بهدف الوصول إلى صوامع القمح في عدرا».




«ضاحية حرستا» ضحية الشائعات

يتخوف سكان ضاحية الأسد (ضاحية حرستا)، من عملية اجتياح مماثلة لما جرى في عدرا العمالية القريبة منها. لا تبعد ضاحية حرستا أكثر من 10 كلم عن عدرا العمالية، ولا تفصلهما عن بعضهما بعضاً سوى بساتين دوما الخطرة، ومنطقة تل كردي.
شائعات كثيرة سادت في الأيام الماضية عن عملية «تحرير» وشيكة تستهدف الضاحية المحاصرة ببلدات مشتعلة، إلا أن سكانها رفضوا التصديق والخروج من منازلهم، بانتظار ما ستؤول إليه الأمور في أحياء الجوار. يواجه الأهالي شائعات مُقلقة، تتزايد بمرور الوقت، حول قرب لحظة الهجوم على الحي الموالي. كاترين، من سكان ضاحية الأسد، تصف الوضع قائلة: «لا ننام بسبب قرب أصوات الاشتباكات من الضاحية. وتصل إلينا اتصالات مُضحكة تقول: انتبهو بدن يهجمو». تسخر الفتاة من الشائعات بقولها: «مين بدو يهجم؟ وكيف والضاحية محمية بحواجز اللجان الشعبية؟ وليش تخويف الناس وكأنو صار الاجتياح والثغر الأمنية أسلوب حياة طبيعياً في البلد».