تصعيد أمني جديد بلغ ذروة غير مسبوقة أمس بفض القوات الأمنية لمخيمات الاعتصام في الأنبار، تفجّر سياسياً بموجة استقالات شملت عشرات النواب وبانسحاب رئيس البرلمان أسامة النجيفي من «ميثاق الشرف» الذي وقّعه قادة سياسيون أخيراً في محاولة لرأب الصدع في البلاد، «بعد تنصّل المالكي من الالتزام ببنودها». الحصيلة الأولى تجاوزت 15 قتيلاً وعشرات الجرحى مرفقة بدعوات إلى «الجهاد» ضد «القوات الغازية».
عوامل كثيرة تضافرت لتنفيذ العملية العسكرية تلك في هذا التوقيت، لعل أولها مقتل 16 ضابطاً من الفرقة السابعة في الجيش يتقدمهم قائدها اللواء الركن محمد الكروي ومساعده العميد نومان محمد في 22 الشهر الجاري في خلال معارك الأنبار. صفعة للقوات المسلحة أشعلت انتفاضة داخلها ما كان ممكناً إخمادها إلا بضربة نوعية لساحات الاعتصام التي تؤكد معطيات الأجهزة العراقية أنها تحوي أعداداً كبيرة من قادة تنظيم القاعدة في البلاد.
وربما ساعد في تسريع تلك الخطوة انتهاء الوحدات المعنية من التدرب على 40 طائرة هليكوبتر روسية من طراز «مي ــ 35» و«مي ــ 28» تسلمتها بغداد من موسكو قبل نحو شهرين ودخلت المعركة حديثاً. أما السبب الثالث فلا شك في أنه غطاء أميركي، ولو ضمني، يعيده المعنيون إلى استياء واشنطن من الحرد السعودي وتعبيراته الميدانية.
هناك أيضاً الضغط التي مارسته قيادة كردستان العراق، حيث الأوضاع أكثر هشاشة من ذي قبل بفعل الاضطرابات السياسية الكردية الداخلية. ضغط زادته العمليات الإرهابية أخيراً في كركوك وتمت ترجمته بأوامر صدرت إلى البشمركة الكردية بوضع نفسها في تصرف قيادة الجيش العراقي في أي عملية في الأنبار. ومعروف أن الأمن يحتل المرتبة الأولى في اهتمامات أربيل التي تتفاخر بأنها نجحت في فرض واحة آمنة في محيط عراقي مضطرب، والتي ترى في تنامي الإرهاب على حدودها في الأنبار خطراً استراتيجياً.
وأخيراً، لا شك في أن الانتخابات المرتقبة في نيسان المقبل كانت حاضرة دوماً في الخلفية عند اتخاذ القرار. في النهاية، لقد بنى نوري المالكي مجده على الإنجاز الأمني الذي اندثر خلال العامين الماضيين، واستعادته لا بد أن تعيد له بعضاً من شعبية تهاوت مع تحول بغداد إلى مشرحة تستقبل يومياً عشرات الجثث.
إعلان إزالة خيم الاعتصام جاء على لسان المستشار الإعلامي للمالكي، علي الموسوي، الذي تحدث عن «فرار القاعدة وعناصرها من الخيم إلى المدينة وتجري ملاحقتهم حالياً»، مضيفاً أنه تم العثور في موقع الاعتصام في الرمادي على «سيارتين مفخختين».
أما المالكي، فرأى من جهته، خلال استقباله أمس عدداً من شيوخ ووجهاء عشائر عراقية، أن «العمليات العسكرية الجارية في الأنبار وحّدت العراقيين خلف القوات المسلحة، وهذا هو عنوان الانتصار الحقيقي». وأضاف أن «عمليات الأنبار هي أكبر ضربة للقاعدة التي خسرت ملاذها الآمن في مخيمات الاعتصام، وهو أمر واضح ومعروف لدى الجميع ومعلن في وسائل الإعلام من خلال تهديدات أعضاء هذا التنظيم الإرهابي من داخل هذه المخيمات».
لكنه نصر يبدو واضحاً أنه لا يزال بعيد المنال. فالعمليات العسكرية في المنطقة، المتواصلة منذ أسابيع، «ستطول» على ما يفيد المعنيون. وجود «القاعدة» والتنظيمات التكفيرية في المنطقة «ضخم»، والحدود مفتوحة في كل الاتجاهات، سواء مع سوريا أو الأردن أو السعودية. «الإمداد لا يتوقف، مالاً وسلاحاً وعناصر بشرية»، و«الحسم ليس سهلاً، والعملية ليست بالسهولة التي تبدو عليه على المستوى العملاني». أوساط قريبة من القيادة العراقية تربط ما يجري بـ«إرادة سعودية بتعطيل عملية الحوار». وتضيف أن «شيئاً في المنطقة لن يحل ما لم تجد السعودية حلاً لمشكلتها، بل ما لم يجد (رئيس الاستخبارات السعودية) بندر (بن سلطان) حلاً لمشكلته الشخصية في الداخل السعودي وفي المنطقة».
لم تمض ساعات حتى أعلن 44 نائباً عراقياً من ائتلافي متحدون وجبهة الحوار الوطني استقالاتهم من البرلمان احتجاجاً، مطالبين بانسحاب الجيش من المدن وبإطلاق سراح النائب السنّي أحمد العلواني الذي اعتقل السبت الماضي في الرمادي على أيدي قوات أمنية. إعلان عن استقالات جاء على لسان رئيس البرلمان أسامة النجيفي الذي يقود متحدون، في مؤتمر صحافي كشف فيه أيضاً عن انسحابه من «ميثاق الشرف» الذي وقّعه قادة سياسيون أخيراً في محاولة لرأب الصدع في البلاد، «بعد تنصّل المالكي من الالتزام ببنودها». كذلك انضم رئيس جبهة الحوار الوطني صالح المطلك إلى الرافضين للعملية العسكرية، وطلب من أعضاء القائمة العراقية كافة الانسحاب والاستقالة من البرلمان.
خطوة لا شك مدوية على الصعيد الإعلامي، لكنها تفقد قيمتها العملية أخذاً بالاعتبار قرب انتهاء ولايتهم البرلمانية، كما تفقد قيمتها السياسية عند التمعّن في ملابسات تلك الخطوة. فمعروف أن هؤلاء النواب لا يمتلكون أصلاً أي تأثير في ساحات الاعتصام التي تخضع لإمرة مباشرة من المجموعات الإسلامية التكفيرية المنتشرة في المنطقة، بل إن كثيراً منهم سبق أن أسرّوا لمفاوضيهم من المسؤولين الحكوميين، خلال جولات الحوار لفض الاعتصامات، بأن هذه الأخيرة جاءت من خارج مخططاتهم وأنهم يرغبون في وضع حدّ لها، مشيرين إلى أنهم مضطرون إلى الذهاب إليها وإطلاق الخطب النارية لهواجس أمنية وانتخابية. وكانوا يقصدون في الأولى خوفاً على حياتهم من التنظيمات الإسلامية وعلى مستقبلهم السياسي في حال ظهروا بمظهر المتخاذلين في دعم شارعهم. طبعاً هذا الأمر لا ينطبق على بعض النواب المتشددين من أمثال العلواني وظافر العاني.
وأياً يكن من أمر، فإنه لا أحد من المعنيين في العراق يبدو متفائلاً بنهاية وشيكة لمأساة هذا البلد. «مهما حصل، كلها تبقى حلول وقتية. هناك أطراف في السعودية لا تريد حلاً. تريد أن يبقى العراق جرحاً ينزف مفتوحاً على كل الاحتمالات».