باريس | منذ تأسيس «المجلس الوطني السوري» في مطلع تشرين الأول الماضي في إسطنبول، سرعان ما خيّب أداؤه التوقعات المتفائلة بإمكان تجسيده محطة جامعة للمعارضة السورية في الخارج على الأقل، إذ لم ينجح في إخراج المعارضة من بؤرة النزاعات الإيديولوجية وصراعات الزعامة. وكان لافتاً أن هوة الخلافات بين فصائل المعارضة ازدادت حدتها بعد تأسيس «المجلس»، حيث اعترضت العديد من تيارات المعارضة على ما سمته «محاولات الهيمنة» التي تنادي بانضمام الجميع إلى «المجلس الوطني»، معتبرةً أن ذلك ينمّ عن «فكر أحادي يعيد إنتاج الاستبداد، ويؤسس لأشكال جديدة من التسلط لا تختلف كثيراً عما عانت منه سوريا على مدى نصف قرن». أما بعض التيارات الأخرى، فقد عابت على «المجلس الوطني» غياب رغبته الجدّية في الانفتاح على من يخالفونه الرأي من المعارضين السوريين.
والأدلة بالنسبة إلى هؤلاء كثيرة، منها أنه «عِوض أن يتحاور المجلس مع من يختلفون معه للتوصل إلى أرضية توافقية مشتركة يسعى إلى إقصائهم أو تهميشهم، ولا يتردد في الاستقواء عليهم بقوى خارجية كما حدث في باريس عندما تدخّل المجلس لدى وزارة الخارجية الفرنسية لمنع إقامة مؤتمر صحافي لميشيل كيلو، أو باللجوء إلى العنف مثلما حدث في القاهرة خلال الاعتداء الذي تعرّض له وفد هيئة التنسيق الوطني من أجل التغيير الديموقراطي لمنعه من الدخول إلى مقر الجامعة العربية للقاء أمينها العام».
هذه الخلافات المزمنة التي تتخبط فيها المعارضة السورية تدفع بالناشط في «تجمع الجاليات السورية في المهجر»، فهد المصري، للقول إنّ «المعارضة السورية في الخارج غير قادرة حتى الآن على أن ترقى إلى مستوى الحراك الشعبي داخل سوريا، فقد مضت أشهر على انطلاق الثورة في سوريا، والمعارضة في الخارج لا تزال تنهش بعضها البعض، ولم تستطع أن تتجاوز الخلافات الإيديولوجية والسياسية التي تتخبط فيها، فضلاً عن الصراعات الشخصية ومعارك الزعامة». ويرى المصري أن «كل هذا يعطي الانطباع بأن المعارضة في الخارج لا تعمل من أجل دعم الحراك الشعبي في الداخل، بل تسعى إلى ركوب الثورة من أجل تحقيق مكاسب مناصبية أو حزبية ضيقة».
بدوره، يعترف الدكتور منذر ماخوس، نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني»، بأن حالة التخبط الذي تعاني منها المعارضة السورية لا ترقى إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تواجهها البلاد، ويفسر ذلك بقوله: «هناك مشاكل ونقائص كثيرة في صفوف المعارضة السورية. ومن دون الغرق في التفاصيل، يمكن الاشارة إلى أن كل فصائل المعارضة مسؤولة، بنسب متفاوتة، عن الوضع الحالي»، لافتاً إلى أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية «يعود إلى غياب أي فضاء سياسي حرّ في سوريا منذ خمسة عقود».
ويوافق رئيس «هيئة التنسيق الوطني» في المهجر، الدكتور هيثم مناع، على هذه الرؤية، على قاعدة أنّ «الديموقراطية ليست تقليداً راسخاً، لا في المجتمع السوري ولا في تعبيراته السياسية والمدنية. ونحن نقرأ ونسمع بالفعل في خطاب بعض المعارضين ما لا يختلف في منطقه الاستقصائي والمتعالي عن ديكتاتورية آل الأسد، لذا يجب أن نحرص جميعاً على تخليص ذواتنا وتطهير محيطنا باستمرار من رواسب الديكتاتورية». في المقابل، يشير «عميد» المعارضين السوريين، ميشيل كيلو، إلى أنه، كـ«معارض مستقل غير منضوٍ في المجلس الوطني ولا في هيئة التنسيق»، صاحب رؤية توفيقية تنادي بتكاتف جهود الجميع من أجل دعم الحراك الشعبي والمجتمعي في سوريا، وذلك في مناخ تعددي يحترم خصوصية كل فصيل من فصائل المعارضة. وفي هذا الموضوع يشدد على أنه «يجب أن تعمل المعارضة السورية على تنسيق جهودها من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة تتوافق عليها مختلف الفصائل، بدلاً من محاولة إدماج الجميع في تنظيم موحَّد. لأننا نريد أن نذهب إلى الديموقراطية، ولا يمكن أن نصل إليها عبر تنظيم أحادي». وفي إطار عدم اعتراضه على وجود عدة تجمعات للمعارضات السورية، يخلص كيلو قائلاً «كفانا ما عانيناه من التنظيم الواحد. نريد أن تبقى لدينا تنظيمات وأطياف سياسية متعددة، بشرط أن تلتقي جميعها في دعم القضية الكبرى، أي قضية سوريا ووحدتها وحريتها».
مثل هذا المسعى التوافقي تعترضه العديد من العقبات، في مقدمتها تفاقم الخلافات بين أبرز فصيلين في المعارضة السورية، وهما «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق». وبحسب صالح مسلم، رئيس حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري»، المنضوي في «هيئة التنسيق»، فإن «المجلس الوطني يمارس منذ تأسيسه، نشاطاً دعائياً مكثفاً ضدنا، يسعى فيه إلى محاربة هيئة التنسيق وتشويه سمعتها بقصد إقصائنا وسدّ السبل أمام أي لقاءات بيننا وبين القوى المختلفة كي لا تتعرف الأطراف الدولية والعربية علينا وعلى حقيقة نهجنا، وحتى لا يكون هناك أي صوت مسموع خارجياً سوى للمجلس الوطني».
لكن كيلو، الذي كان أول من تعرّض إلى تضييقات «المجلس الوطني» خلال زيارته باريس، يرى أن تلك «النظرة الإقصائية» بدأت حدّتها بالتراجع في الفترة الأخيرة، بدليل أن «المجلس الوطني» دخل في مفاوضات بالقاهرة مع «هيئة التنسيق»، في إشارة إلى المسار الذي خرج عنه الاتفاق السياسي بين التنظيمين والذي أثار سجالاً واسعاً في اليومين الماضيين (انظر التقرير أدناه). ويرى كيلو أن مجرد حصول هذه المفاوضات، هو بمثابة اعتراف من «المجلس الوطني» بوجود هيئة أخرى تمثل قطاعاً هاماً من المعارضة السورية. ووفق تعبيره، يشكّل ذلك تطوراً إيجابياً يدفع إلى التفاؤل بإمكان الانتقال من «عقلية الإقصاء» إلى «منطق التوافق». ويشرح ضرورة «قيام حوار موسع حول عدد من القضايا الأساسية المتعلقة بحاضر سوريا ومستقبلها، وأن يكون هذا الحوار دقيقاً وموضوعياً ويتّسم بالوطنية والغيرية والرغبة الصادقة في إيجاد توافقات حول قواسم مشتركة ملموسة يمكن العمل معاً على تنفيذها، وفق ما يتم التوافق عليه من تقاسم للصلاحيات والأدوار».
يتفق منّاع مع ما يقوله كيلو بخصوص تراجع «النظرة الإقصائية» لدى «المجلس الوطني». لكنه يبدو أقل تفاؤلاً بخصوص انتقال «المجلس الوطني»، فعلياً، إلى العمل بـ«منطق توافقي» بما أن «صيغة الإقصاء أو الإلحاق بهيكل واحد صارت مرفوضة الآن في العقل الجماعي للمعارضة السورية، وبالتالي يُفترض من دعاتها في المجلس الوطني أن يتحرروا منها، وخصوصاً بعدما تبيّن للجميع فشل صيغة الوحدة الاندماجية التي أُريد فرضها أمراً واقعاً». وفي هذا الموضوع، يعرب مناع عن موقف «هيئة التنسيق» الذي يفيد بأن «الصيغة الأكثر واقعية تتمثل في عقد مؤتمر سوري عام يشمل المجلس الوطني وهيئة التنسيق والشخصيات العامة المستقلة والكتلة الكردية، مع احتفاظ كل طرف بهيكليته الأصلية»، على أن يتم الابقاء على امكانية أن تنبثق عن هذا «المؤتمر العام»، هيئة قيادية مشتركة، بحسب تعبيره. حتى ان مناع يرى أنّ إنشاء «مؤتمر» من هذا النوع، على طريقة النموذج الجنوب ـ أفريقي، هو «أمر أكثر واقعية ونجاعة من بعض الأطروحات المستهلكة التي يتمسك بها البعض والتي تحاول استنساخ المثل الليبي».
لكنّ الآراء تتباين، حتى داخل «هيئة التنسيق»، بخصوص إمكانية الخروج من مفاوضات القاهرة بصيغة توافقية لعقد «مؤتمر عام» تنبثق عنه قيادة مشتركة تضم مختلف أطياف المعارضة السورية. وهنا، يبدو صالح مسلم متفائلاً بحظوظ تحقيق النموذج الجنوب ـ أفريقي الذي ينادي به هثيم مناع. لكن القيادي في هيئة التنسيق، «المستقل» حالياً، سمير العيطة، يتحفظ على ذلك، لأنه يشكك في صدق نوايا «المجلس الوطني» في هذا الخصوص. وبالنسبة إلى احتمال توحيد المعارضة، يعلّق مسلم بـ«نحن نؤيد توحيد صف المعارضة، لكن بشرط أن يتم ذلك تحت مسمى جديد غير المسميات الحالية. لدينا في هيئة التنسيق 15 حزباً سياسيّاً عريقاً تمتلك قاعدة جماهيرية كبيرة، ومعظمها ترفض الانضمام إلى صفوف المجلس الوطني بصيغته الراهنة». ويستدرك مسلم بأنه مقابل هذا الوضع، لدى «المجلس الوطني أطراف تجاهر بأنها لا تقبل حتى بأن تلتقي مع هيئة التنسيق، ولهذه الأسباب، طرحنا فكرة عقد مؤتمر وطني شامل للمعارضة السورية تحت سقف الجامعة العربية، ليقرّر صيغة توحيدية للمعارضة ضمن هيكل جديد يحمل مسمى مغايراً».
أما العيطة، فيكشف أنّ «مشاورات القاهرة قامت على أساس اعتبار أن المجلس الوطني طيف من أطياف المعارضة السورية، وهيئة التنسيق طيف آخر». الهدف من هذه المشاورات، بحسب العيطة كان «بلورة قواسم مشتركة، لكن هذا المسعى اصطدم بعقبات متعددة لأنه في الوقت الذي كانت فيه المساعي جارية في القاهرة من أجل وضع تصوّر مشترك بخصوص المرحلة الانتقالية، قام المجلس الوطني بنشر برنامجه السياسي الذي جاء فيه أن المجلس هو الذي سيحكم في المرحلة الانتقالية، بالتنسيق مع المؤسسة العسكرية». ويرى العيطة أن هذا الأمر طرح إشكالية مزدوجة: من جهة، لم يوضح المجلس هل المقصود المؤسسة العسكرية الحالية أم الجيش السوري الحر؟ ومن جهة أخرى، نتساءل كيف يمكن لأطياف المعارضة الأخرى أن تتفاوض مع المجلس الوطني على تصور مشترك للمرحلة الانتقالية، إذا كان يقول سلفاً إنه سيحكم منفرداً؟



«المجلس» و«الهيئة» بين الإقصاء والتفاوض

فاجأت مفاوضات القاهرة بين «المجلس الوطني» و«هيئة التنسيق» العديد من أطراف المعارضة السورية. ومن بين هؤلاء ميشيل كيلو، الذي يقول إنه «عندما جئنا إلى باريس، أعلنّا مسبقاً أننا لسنا منضوين رسمياً في هيئة التنسيق، ونعبّر فقط عن آرائنا كمعارضين مستقلين. ورغم ذلك، فوجئنا بأن بعض الأطراف في المجلس الوطني حاولت أن تمنع عقد مؤتمرنا». ويضيف «لقد كان المجلس الوطني آنذاك يقول إنه هو الثورة، وإنه التعبير الوحيد عنها، لكن يبدو أن المجلس غيّر رأيه الآن لأنه وفق ما نسمع، هناك لقاءات ومفاوضات في القاهرة بينه وبين هيئة التنسيق». ويسخر كيلو من واقع أن «الشخص الذي يدير هذه المفاوضات في القاهرة هو الشخص نفسه الذي اتصل بوزارة الخارجية الفرنسية لتحريضها على منع مؤتمرنا الصحافي!». ويستغرب هيثم منّاع المفارقة الساخرة التي أشار إليها كيلو، ويؤكد أن لا علم له بمشاركة الشخص المذكور في المفاوضات الجارية في القاهرة.