«كنا نباهي أمام الناس في محطات تبريز وطهران وإسطنبول»، بصوت مليء بالحسرة يقول العامل العجوز الواقف في استقبال زوار محطة القطار في اللاذقية. المحطة المليئة بالركاب في المدينة لا تشبه أياً من محطات القطار في المدن السورية الأُخرى، باستثناء جارتها طرطوس. 2000 راكب يومياً يجتازون باب المحطة، ويهبطون أدراجها، ليصلوا إلى القطار المتوجه نحو مدينتي جبلة وطرطوس. قاعة الشرف الفخمة، التي لطالما استقبلت زوار المحطة وركابها معزّزين بأقل أجرة ممكنة، لقطع المسافات الطويلة ضمن البلد الواحد والآمن، ما عادت على عهدها. بل أُغلقت وبدت من الخارج مهجورة، تعطي صورة عمّا حل في البلاد كلها من تشويه لأبهى معالمها، وأكثر مؤسساتها فاعلية. تذكر رولا، طالبة جامعية من مدينة جبلة، أن «50 ليرة هي أجرة الطريق إلى المدينة التابعة للاذقية، فيما أجرة الراكب دون السن القانوني تقدَّر بـ 25 ليرة. وهي أجرة تناسب الطلاب والموظفين، في ظل غلاء أجور النقل في سوريا». وتضيف: «ما زلنا نجد التنقل عبر القطارات أكثر راحة. غير أن الخوف من تخريب السكك الحديدية في المدن الداخلية شكّل عقبة دون استخدامها في المرحلة السابقة».
18 ألف عامل كانوا في السابق يعملون كخلية نحل في قطاع السكك الحديدية على طول الأراضي السورية، حين بدأت بوادر الحرب السورية. استهداف عمال صيانة السكك الحديدية في محطة بشمارون في ريف إدلب عام 2012، أدى إلى استشهاد أحد العمال، الأمر الذي أدى إلى إيجاد شرخ بين السوريين واستخدام خطوط السكك الحديدية في تنقلاتهم. عاملون آخرون لقوا مصرعهم على رأس عملهم وفي أثناء أعمال الصيانة، إذ كانوا أول المستهدفين باعتبارهم يمثلون استمرار هيبة الدولة ومرافقها العامة. وعلى الرغم من استمرار 8 آلاف عامل العمل في قطاع السكك الحديدية فقط، من أصل عدد العاملين الأساسي خلال فترة ما قبل الحرب، غير أن مدير المؤسسة في اللاذقية عدنان نديم البيطار وعد السوريين بـ«التجديد في المحطة وفق الإمكانات المتاحة، إذ تستعد المحطة لتنفيذ فكرة تتعلق بتفعيل خط إنترنت داخل القطارات المسافرة». ويتباهى البيطار بأن مؤسسته تتابع عملها رغم الصعوبات، رغم أن قطارين فقط تحت تصرف المؤسسة في الساحل، يقومان على خدمة ركاب المنطقة». ويُعَدّ خط قطارات البضائع بين اللاذقية وجبلة وطرطوس فاعلاً، وصولاً إلى مدينة حمص. ويذكر القيّمون على المؤسسة أن الخط الحديدي إلى مصفاة حمص جاهز للعمل منذ ما يزيد على 5 أشهر، غير أن التروي في تفعيله يستمر إلى حين التأكد من عدم وجود تهديدات باستهدافه.
18 ألف عامل كانوا يعملون في قطاع السكك الحديدية

وتقدر خسائر السكك الحديدية خلال الحرب بـ 180 مليار ليرة، منها 158 ملياراً هي أضرار مباشرة، و22 ملياراً، منها أضرار غير مباشرة، إذ تبلغ أضرار الخط الحديدي الحجازي وحدها 8 مليارات، وفق ما أعلنه مؤتمر عمال السكك الحديدية خلال اجتماع أعضائه في دمشق، الشهر الفائت. وتبعاً لجولات المسؤولين وخبراء السكك الحديدية إلى بعض مواقع الخطوط الحديدية في ريف حلب، إثر تقدم الجيش الأخير في الريف الجنوبي، فإن خسائر السكك هائلة، إذ تحدث بعضهم لـ«الأخبار» عن اختفاء أجزاء كاملة من الحديد الذي يشكل سكك القطارات. ولا يغفل الخبراء تاريخ المنطقة في مجال صيانة العربات والقاطرات، ووجود رحبات على مستوى عالمي في منطقة جبرين في رف حلب مثلاً، أسوة بمحطة القدم في ريف دمشق، أول وأكبر محطات الخط الحديدي الحجازي، والتي تحوي أكبر معمل لصيانة القطارات والعربات على مستوى المنطقة، وتلاها إنشاء محطة الحجاز عام 1908، على مساحة 925 متراً مربعاً، التي تحولت لاحقاً إلى معلَم دمشقي عريق، لا أكثر.
وفي ظل الحديث عن «المرفأ الجاف» في مدينة حسياء الذي لم تكتمل بعد المرحلة الأولى من دراسته، فمن الضروري استعادة حقول الفوسفات في خنيفيس والصوانة والطرق الواصلة إليهما من يد مسلحي «داعش»، لتحقيق الفائدة المرجوة من تنفيذ المشروع. ويبلغ طول خط حديد المنطقة الشرقية الواصل إلى مناجم الفوسفات، والذي يصل بين مهين وحمص وطرطوس 280 كلم. الدراسات المتعلقة بـ«المرفأ الجاف» الذي يبعد 100 كلم عن السلاح، قديمة جديدة، في ظل الحاجة المتواصلة إليه. محافظ حمص طلال البرازي يذكر أن تفعيل عمل الخطوط الحديدية الواصلة بين حمص وبقية المحطات في المدن الأخرى لم يبدأ بعد، خشية استهدافها والتكاليف الباهظة. ويشرح فكرة المرفأ الجاف التي يمكن أن توفر 85% من تكاليف النقل على الحكومة السورية. الفكرة يمكن أن تنفذ في حال تشغيل السكك الحديدية التي أصبحت مؤهلة للعمل، بحسب البرازي، والتي تسمح بتصريف البضائع ونقل المواد الأولية من الموانئ البحرية وإليها.

شهيد... بانتظار الحقوق
لم يتوقع الأهل والأقارب أن بداية الأحداث الأمنية في سوريا ستخطف روح مصطفى فياض، الموظف في مؤسسة السكك الحديدية في اللاذقية، من داخل مطبخ بيته، برصاصة قنص. كان ذلك أحد الأيام السوداء من تاريخ المدينة، خلال الشهر الثامن من عام 2011، إذ هاجم مسلحون مساكن المحطة المخصصة للعاملين في مؤسسة السكك الحديدية. المساكن المحاذية لمخيم الرمل الفلسطيني، التي يبلغ عدد مبانيها 7، وتؤوي 40 عائلة، بقيت عرضة للحصار 24 ساعة، حتى اضطر الجيش إلى سحب السكان باستخدام عربات مصفحة. شهيد المؤسسة ترك عائلة لا تملك مسكناً آخر، ما اضطر أحد أبناء الشهيد إلى تأمين عقد سنوي داخل في المؤسسة، مكان والده، بهدف استمرار العائلة في السكن داخل البيت، بانتظار صدور مرسوم رئاسي لنيل حقوق عائلة الشهيد والتعويضات المستحقة. يقول محمد، ابن الشهيد، بأسى: «معنا ورقة من فرع الحزب تعترف بوالدي شهيداً. هذا كل ما بقي لنا منه». ويضيف: «بموجب العقد السنوي بتعيين أحد أبنائه في المؤسسة، ما زلنا نقيم في المنزل. وعندما ينتهي العقد يمكن أن يكون مصيرنا الشارع». يستذكر الشاب العشريني مأساة العائلة باستشهاد عميدها، مستبشراً في الأيام القادمة الأفضل، باعتبار أن المنطقة التي قضى والده في أحداثها الأمنية، أضحت آمنة طوال السنوات القليلة الماضية.