باريس | قبل شهرين، اعتُبر إسناد رئاسة «المجلس الوطني السوري» إلى الدكتور برهان غليون «ضمانة أخلاقية» رأى كثيرون أن «المجلس» بأمسّ الحاجة إليها من أجل القيام بمهامه بصفته هيئة تُعنى بتوحيد صفوف المعارضة. وساد التفاؤل بأن اختيار مثقف من هذا المصاف لإدارة «المجلس» يشكّل عاملاً مشجِّعاً من شأنه أن يسهم في التوفيق بين مختلف تيارات المعارضة، في إطار من التآخي واحترام الرأي الآخر. لكن الصورة سرعان ما انقلبت بفعل «العقلية الإقصائية» التي ظهر فيها «المجلس». وإذا بالكثيرين ممن تحمسوا لتولّي برهان غليون الرئاسة، يكتشفون أن «السلوك غير الديموقراطي» الذي يتعامل به بات من أهم الإشكالات التي تعوق توحيد صفوف المعارضة. وقد زاد المشهد التباساً بفعل غموض وتضارب مواقف «المجلس» ورئيسه بخصوص أبرز التحديات التي تعترض الحراك الشعبي السوري، كالموقف من «عسكرة الثورة» و«التدخل الأجنبي».
ويعرب رئيس «هيئة التنسيق الوطنية» في المهجر، الدكتور هيثم مناع، عن مفاجأته حين سمع وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه يكشف أن غليون طالب بـ «ممر إنساني» (كوريدور إنساني) في سوريا. ويقول «أنا كناشط حقوقي كنتُ في منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا (أثناء المجازر العرقية في رواندا)، وأعلم جيداً معنى الكوريدور الإنساني، وأعتقد أنه لا يخفى على الدكتور غليون أن هذا النوع من الممرات يحتاج إلى قوات تدخل عسكرية لحمايته». من هنا، يأسف مناع لوجود «استعمال تعسفي للكلمات والمصطلحات وتسطيح إعلامي متعمد يجعل المثقف ورجل الشارع يتحدثان بنفس الطريقة الغوغائية، فالتدخل العسكري الأجنبي يبدأ منذ اللحظة التي يُكسر فيها احتكار السلطة السياسية للعنف في أي بلد، سواء تم ذلك بوسائل داخلية أو خارجية، والحرب الأهلية تبدأ في اللحظة التي يتم فيها تسليح الحراك الشعبي».
وفي ظلّ تبايُن وجهات النظر في صفوف المعارضة السورية بخصوص «التدخل الأجنبي»، وتعدّد الصيغ والمصطلحات المطروحة، كـ«الحماية الدولية» و«الكوريكدور الإنساني» و«الحظر الجوي» و«المناطق العازلة»، بقيت مواقف غليون غامضة وملتبسة، حتى كتب برنار هنري ــ ليفي، في منتصف الشهر الماضي، مقاله الشهير الذي لّمح فيه إلى أنّ أبرز من تباحث معهم من قيادات المعارضة السورية، بمن فيهم برهان غليون، يؤيدون تدخلاً عسكرياً على الطريقة الليبية.
ولدى الاستفسار من نائب رئيس لجنة العلاقات الدولية في «المجلس الوطني»، الدكتور منذر ماخوس، عن ردود الفعل داخل «المجلس» على الجدل الذي أثاره ذلك المقال، يجيب: «لم نرِد التعليق على كلام هنري ــ ليفي، فما يقوله محل جدل وتشكيك على الدوام، لكنني أستطيع التأكيد أن الدكتور برهان غليون لم يقل إنه يؤيد أو يشجع التدخل على الطريقة الليبية، ولم أسمع منه ذلك في أي تصريح سواء داخل المجلس الوطني أو في وسائل الإعلام».
من جهته، يشير «عميد المعارضين» السوريين، ميشيل كيلو، إلى وجود أشخاص يؤيدون التدخل الأجنبي داخل «المجلس الوطني»، بدليل ما أعلنه رياض الشقفة (مرشد الاخوان السوريين) أخيراً عن تأييده تدخلاً تركياً في سوريا لأغراض إنسانية. ويحيل كيلو إلى كلام شخص آخر من «المجلس» مفاده أنّ الأتراك بشكل خاص «مؤهّلون للتدخُّل في سوريا لأنهم مسلمون، وكانوا حتى فترة قريبة شركاء لنا إذ كنّا جزءاً من الإمبراطورية العثمانية». رغم ذلك، يشكك كيلو في أن يكون هنري ــ ليفي يقول الحقيقة عن غليون، «فجميع أعضاء المجلس لا يؤيّدون تدخُّلاً على الطريقة الليبية، والدكتور غليون، حسب علمي، لا يؤيد التدخل الأجنبي، أو على الأقل هذا ما يقوله ويؤكّده لي دائماً». لم يكد يهدأ الجدل الذي أثاره مقال هنري ــ ليفي، حتى جاءت تصريحات الدكتور برهان غليون لصحيفة «وول ستريت جورنال»، بخصوص المقاومة والجولان والموقف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لتعمِّق هوة الخلافات بينه وبين منتقديه، داخل «المجلس» وخارجه.
وفي هذا الموضوع، يشدّد منّاع على أنه لم يفاجأ بتلك التصريحات التي عدّها البعض «تنصُّلاً من القضايا القومية» و«مهادنة للاحتلال»، ذلك أن «المجلس الوطني» هو بالأساس «تعبير سياسي عن اليمين الليبرالي واليمين الديني في المعارضة السورية في الخارج، وكلا هذين الطرفين على علاقة طيبة مع القوى الغربية والدول الخليجية. وهذه الخلفية تحديداً هي التي تدفعنا إلى التحاور مع المجلس من أجل الخروج بصيغة وطنية ومواطنية للتغيير الديموقراطي، فنحن نسعى إلى جعل هيئة التنسيق قوة فرملة في وجه كل التوجهات السياسية التي انتقلت من صف الوطنية إلى ما سماه أحدهم السِّفر الاستعماري»، على حدّ تعبير مناع.
كلام يخلص منه مناع إلى اعتبار أن من واجب «هيئة التنسيق» التأكيد بنحو دائم على «الصلة العضوية بين المشروع الديموقراطي المواطني والمدني الذي نناضل من أجله، وبين واجب الدفاع عن السيادة ومقاومة المحتل الإسرائيلي والتحالف مع كل قوى المقاومة في المنطقة».
ويعترض ماخوس على التفسيرات التي مُنحت لتصريحات برهان غليون، مشيراً إلى عدم دقة تعريبها. ويشدد على أنه «لا يوجد داخل المجلس الوطني أي تنصّل أو ابتعاد على القضايا القومية المصيرية، وفي مقدمتها موضوع تحرير الجولان الذي سيبقى موقف سوريا بخصوصه ثابتاً، شأنه شأن استحالة تخلّي المعارضة السورية عن القضية الفلسطينية».
ويرى ماخوس أنّ تصريحات غليون بخصوص الجولان المحتل تمّ «تأويلها بشكل مغرض من أجل إعطاء الانطباع بأنه يشكّك في شرعية مقاومة الاحتلال». ويتولى الرجل تحديد موقف «المجلس» من موضوع الصراع بالتالي: «نريد بالطبع أن تكون الأولوية للمفاوضات إذا كان من الممكن استعادة الأراضي السورية كاملة عن طريقها. ورغم أن لا أحد منا يريد أن يدقّ طبول الحرب، لكن إذا لم تقبل إسرائيل بإعادة الأراضي المحتلة، تبقى الخيارات كلها مفتوحة، ويظلّ حق المقاومة المسلحة قائماً ومشروعاً». ويطمئن ماخوس إلى أن الغالبية داخل «المجلس الوطني لم تغيّر مواقفها بهذا الخصوص، ولا تريد على الإطلاق أن تتخلى سوريا المستقبل عن حق المقاومة، سواء تعلق الأمر بالجولان أو بالقضايا العادلة في فلسطين وفي الدول العربية المجاورة». ويتابع أن «الموقف الإيجابي الذي وقفته دول الخليج في الفترة الأخيرة من الثورة السورية يستحق الاحترام والتقدير، وبناءً عليه، لا بد من أن تكون علاقات سوريا المستقبل مع دول الخليج علاقات أخوة وودّ وتعاون». أما في ما يتعلق بالدخول معها في تحالفات إقليمية أو دولية، أو التوقع بانضمام سوريا إلى صف «عرب أميركا» في حال تسلّمت المعارضة دفّتها، فهذا الأمر «غير مقبول على الإطلاق»، على حد تعبيره، على قاعدة أنه لا يمكن لأحد في «المجلس الوطني» أن «يفكر أو حتى أن يحلم بأن يُبعد سوريا عن دورها الإقليمي وعن واجباتها القومية، بالتالي، فنحن نرى أن تصريحات الدكتور برهان غليون، أو أي تصريحات أخرى في هذا الشأن، مجرد اجتهادات وآراء فردية» لكون هذه القضايا «الاستراتيجية والمصيرية لم تُطرح بعد للنقاش داخل المجلس، ولم يتم التباحث لتحديد موقف رسمي أو موحّد بخصوصها» وفقاً لماخوس.
وفي السياق، يكشف المسؤول المعارِض نفسه أن «المجلس» يسعى حالياً إلى استكمال بناء هياكله ومؤسساته، «لذا لم يتسع المجال له لتحديد الموقف من أي قضايا دولية أو إقليمية». أما بخصوص انعكاسات تصريحات غليون ومواقفه على المساعي الجارية لتقريب وجهات النظر بين أطراف المعارضة السورية، فيقول عنها المعارض سمير العيطة، رئيس تحرير الطبعة العربية من «لوموند ديبلوماتيك»، «لستُ ممن يرون أن مشكلة المجلس تتلخص في برهان غليون، بما أن القضية أعمق من أن تُختزل فقط في تصريحاته أو مواقفه. لكن ما أدلى به للمجلة الأميركية يذكّرني بمقولة تاليران الشهيرة: من الخطأ السياسي ما هو أسوأ من الخطيئة». ولدى شرح رأيه هذا، يضيف «أنا لا أتحدث فقط عمّا قاله غليون بخصوص الموقف من المقاومة والقضايا الوطنية العربية، بل أرى أن خطأه السياسي الذي يضاهي الخطيئة يشمل مجمل التصوّرات الذي طرحها لكونه قدّم الكثير من التنازلات المجانية للقوى الخارجية سياسياً واقتصادياً». بهذا الكلام يعلّق العيطة على الحجج التي أُعطيت لكلام غليون عبر الحديث عن عدم دقة الترجمة. أما بخصوص الموقف من المقاومة والاحتلال، فأفضل تعليق قرأه العيطة كان على موقع «فايسبوك»، حيث كتب أحد المدوِّنين: «لو أن النظام السوري قبِل بأن يقول نصف ما قاله برهان غليون، لشاهدنا طائرات الحلف الأطلسي تقصف المتظاهرين السوريين دفاعاً عن النظام القائم».



المثقّف والسلطة


الانتقادات الموجهة إلى برهان غليون، منذ توليه رئاسة «المجلس الوطني»، أعادت فتح النقاش حول طبيعة الدور السياسي للمثقفين. وعن ذلك، يعلق ميشيل كيلو بأن «دور المثقفين في الوضع السوري الحالي يجب أن يرتكز في العمل على تحصين جبهة المعارضة، حتى لا تتحوّل إلى أداة بأيدي القوى الأجنبية التي تريد التدخل في سوريا». أما حول تولي غليون رئاسة «المجلس الوطني»، فيقول كيلو: «لا أريد التأريخ لنشاط ومسار الدكتور غليون أو الحكم عليه، فهو عندما تولى رئاسة المجلس الوطني، قال إنه صار سياسياً رغماً عنه، وإنه لم يسع إلى مثل هذا الدور، بل الثورات الوطنية هي التي حتّمته عليه. الدكتور برهان غليون برأيي يبقى مثقفاً، وأعتقد أنه لن يَسقُط ما لم يُسقِط حساسية المثقف».