تتجاذب الأزمة السياسية المشتعلة في العراق نزعتان، الأولى تدفع نحو التصعيد، فيما تجهد الثانية باتجاه التهدئة، رغم أن أسس حل قد اتُّفق عليها قبل أيام، يُفترض أن يعلنها الرئيس جلال الطالباني الأسبوع المقبل. وتفيد المعلومات الواردة من بغداد بأن ممثلين عن الأطراف العراقية جميعها قد أمضوا معاً ليلة رأس السنة في عاصمة إقليمية، حيث أجروا سلسلة من الاجتماعات، في محاولة للتوصل إلى صيغة تضع حداً للأزمة المتفاقمة في العراق. وتقول مصادر شاركت في هذه الاجتماعات إن الأطراف المعنية تفاهمت نهائياً على فصل السياسي عن القضائي. بهذا المعنى، تصبح قضية نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، رهن حكم القضاء. وتضيف المصادر أن الهاشمي وافق على حل كهذا، لكنه طالب بضمانات بعدم تسييس القضاء، وبأن يحصل على محاكمة نزيهة، واستُجيب لطلبه.
أما بالنسبة إلى الحل السياسي، فقد اتُّفق، بحسب المصادر نفسها، على إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل اندلاع الأزمة، بمعنى عودة وزراء «العراقية» ونوابها كل إلى موقعه، بعد سحب استقالاتهم. كذلك اتُّفق على أن تُؤلف قائمة «العراقية» لجنة تفاوض تدخل في حوار معمّق مع التحالف الوطني العراقي الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري، ويضم كتلتي «دولة القانون» و«الائتلاف الموحد»، رغم أن المالكي كان يريد أن يجري التفاوض مع هذه الأخيرة. وتوضح المصادر أن مهمة الحوار، الذي سينطلق من منزل الطالباني في 14 كانون الثاني الجاري، بحث السبل الكفيلة بتفعيل الاتفاقات السابقة بين الكتل البرلمانية.
وتتقاطع المصادر على صعوبة عودة الهاشمي وعلاوي إلى الحياة السياسية. وتوضح أن «الأول متورط حتى العنق في كثير من الأعمال الإرهابية التي ضربت العراق خلال السنوات الماضية. وهذه ليست أقوال، بل اعترافات وأدلة مسجلة ومصورة»، مشيرة إلى أن «الهاشمي كان يدفع بنفسه الأموال للإرهابيين وفق قائمة أسعار كان قد وضعها، تحدد مكافأة كل عمل، سواء كان تفجيراً أو عملية اغتيال، وغالباً ما كان السعر يتحدد وفق عدد الضحايا الذين يسقطون بالتفجير أو مستوى الشخصية التي تجري تصفيتها». أما بالنسبة إلى علاوي «فرغم الفرص المتعددة التي أعطيت له لضمان موقع لائق له في الحكم في العراق، مع إبقاء المجال مفتوحاً له لتولّي رئاسة الحكومة في فترة لاحقة عندما يحين الوقت، يبدو مصرّاً على دفن مستقبله السياسي عبر اعتماده سياسة فوضوية، ورهانه بكل رصيده على السعودية وتركيا، وعدائه المعلن لإيران». وتضيف المصادر أن «تصريحات علاوي في زيارته الأخيرة للبنان خير دليل»، في إشارة إلى تصريحاته المناهضة لإيران، وخاصة في خلال زيارته لمنزل الرئيس السابق أمين الجميّل.
مصادر قريبة من رئاسة الحكومة العراقية تقول إن المالكي لا يزال مصرّاً على «الحسم حتى النهاية»، مشيرة إلى أن «المعلومات والأدلة التي تمتلكها أجهزة الأمن والاستخبارات عن الهاشمي استُكملت في شهر رمضان الماضي، ومعها المعلومات عن خطط انقلابية مزعومة، تارة بالسياسة وطوراً بالعسكر، ما دفع المالكي إلى خطوة وقائية عبر نشر الدبابات في المنطقة الخضراء كرسالة إلى كل من تسوّل له نفسه العمل على قلب الوضع القائم»، مشيرة إلى «ملفات شبيهة موجودة في أروقة الاستخبارات بحق رافع العيساوي، لكن القرار حتى اللحظة بعدم فتحها». أما علاوي، فتقول المصادر نفسها «يبدو واضحاً أنه لا يرغب في تسوية مع المالكي، بل يريد إخراجه من الحكم والجلوس مكانه بأي ثمن»، مشيرة إلى أن «الخطة التي كان علاوي يعمل عليها، ومعه باقي قادة العراقية، تقوم على خروج العراقية من البرلمان ومن مجلس الوزراء، فتنطلق حملة سياسية تطالب باستقالة الحكومة على قاعدة أنها فقدت التمثيل السنّي، وبالتالي الصفة التوافقية بحسب اتفاق أربيل، وبناءً على ذلك تؤلّف حكومة انتقالية برئاسة الجعفري تكون جسراً لمرحلة مقبلة تجري خلالها انتخابات مبكرة يتولّى في نهايتها علاوي الحكم».
لم تكن أطراف «العراقية»، التي أطلقت حملتها تلك قبيل الانسحاب الأميركي الكامل في منتصف الشهر الماضي، تتوقع على ما يبدو أن يكون ردّ فعل المالكي بهذه السرعة وبهذا الحجم، في ظل تصعيد أمني يعبّر عن نفسه بتفجيرات شبه يومية أوقعت أمس 73 قتيلاً وأكثر من 150 جريحاً.
طارق الهاشمي، الذي سارع إلى الفرار عبر المطار إلى أربيل، كان قد غادر بغداد وأعطيت الأوامر للطيار الذي يقود به بالعودة إلى مطار بغداد، فاضطر إلى الفرار برّاً تحت جنح الظلام إلى إقليم كردستان. أما صالح المطلك، الذي سارع إلى الفرار إلى عمان، فأبقي ثلاث ساعات في الطائرة، بانتظار إذن المغادرة، دخل عليه في خلالها عدد لا يحصى من الضباط الواحد تلو الآخر، بحجة التفتيش عن أسلحة في الطائرة والتأكد من قائمة المسافرين، إلى أن صعد ضابط استخبارات برتبة لواء، كان حريصاً على ألّا يلقي عليه التحية الرسمية وأن يخاطبه بصفة «دكتور» لا «دولة الرئيس»، قبل السماح له بالمغادرة.
ويبدو المطلك، على ما تفيد مصادر قريبة منه، الأكثر رغبة في تسوية تعيده إلى منصبه و«ترفع عنه ظلم المالكي» الذي «يمارس بحقه شتى أنواع التنكيل، من مثل قطع المياه والكهرباء عن منزله، ووضع دبابات أمام باب هذا المنزل، وتقييد حركته، فضلاً عن تجاهله كلياً في مجلس الوزراء ودفعه إلى أخذ إجازات إجبارية».
ويبدو أن توجه المالكي بالحسم الكامل كان يحظى في البداية بدعم كامل، محلي وإقليمي، لكن مع الوقت بدأت بعض الأطراف، وبينها طهران، تدفع نحو التهدئة وإيجاد تسوية تجنّب البلد خضّات، وتحرم الأميركي الذي غادر البلاد فرصة الشماتة والادّعاء أنه ضمانة الاستقرار في بلاد الرافدين.
ومع ذلك، فإن الوضع لن يعود إلى سابق عهده، خاصة مع حركة الانسحابات التي تجري في صفوف «العراقية»، التي غادرها كل النواب الشيعة، والاستقالات في صفوف حركة الوفاق التي يتزعمها علاوي، وإن كانت هذه القائمة لا تزال قادرة على التعطيل، بدليل تأجيل اجتماع الكتل البرلمانية مرتين خلال الأسبوعين الماضيين.