غزة | إلى جوار البحر، يومياً، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، في السلم والحرب، يقف خلف الكافتيريا الحمراء وكأنها مقصورته الملكية. وحده الملك، الآمر الناهي! مع أنه ليس إلا إنساناً بسيطاً، يبيع السجائر المجمركة وساندويشات المارتديلا، ليس أي مرتديلا، ولكن تلك التي يُعدّها وفقاً لـ«وصفة سريّة»، تدفعه إلى التفاخر بأنّها «أطيب ساندويشات مرتديلا في غزة كلها» كما يحب أن يقول بصوت عال!
كنزه؟ قلب ووجه بشوش. تعوّد توزيع ابتساماته البيضاء بانتظام على المارّة، وكأنّهم أبناء قلبه. إن سُئل: من أنت؟ أجاب بخفة ظل: «بينادوني أبو الأنس، انولدت بالتسعة وخمسين، عندي أربع بنات، برجي التور، وبحب اللون الأبيض كتير». هكذا، يتلو تلك المعلومات بلكنة آلية سريعة كمن يسخر من هذا التلخيص، مشيراً بغمزة سريعة من عينه اليمنى إلى رخصة الكافتيريا التي يلصقها بجانب صناديق السجائر المرصوفة فوق بعضها: «كلّو في السليم». الكل يعرفه. «من لا يعرف أبو الأنس لا يعرف القدس»، هكذا يمازحه السائقون لدى مرورهم بجواره. يريدون القول بأنه كالقدس قبلة الزوار هنا. هذا «الأبو الأنس» المفعم بالحياة. فرغم بساطة عيشه وقلة دخله، إلا أنّه يمنح بهجته الفطرية لرواده وزواره حتى أصبح والياً على هموم زوّار البحر، يألفونه لخفة ظله وطيبته وعفويته، فيدفعهم إلى شكوى مصابهم له، يشعره ذلك بمدى حبهم وثقتهم، فيبادلهم المحبة بالإصغاء. ينصت باهتمام والد غلب صبره حنوّه، وبما علمته الحياة يشير عليهم بالنصائح. حكمته الأساسية للجميع: «روح للكبير بعدين الصغير ولو ما ظبطت معك ارجع لعقلك»، يقصد أن يفكّر الإنسان في كافة الحلول لإنهاء ضائقته، لكن إسداء هذه النصيحة الثمينة لا يكفي لطمأنة قلبه الكبير! فبالنسبة إليه ضائقة غيره هي ضائقته شخصياً، لا يهنأ له بال إلا بسماع خبر يخفف من وطأتها، وإن تدهورت بأحدهم الحال، جاءه هازئاً مهوّناً: «يعني خربت الدنيا؟ لأ طبعاً. حاول مرة تانية»، منهياً جملته تلك بضحكة مجلجلة تبدد هموم السامع، ولو للحظات!
زوار البحر، أولئك الذين يأتون ليلقوا بهمومهم في «عبّه»، لا ليسوا مجرد عابري سبيل، بل هم جزء مهم وضروري من حياته ومشاعره الخاصه. جزء من كينونته. حتى إنّه يحفظ وقع خطواتهم المتسارعة نحو البحر، كأنهم ذاهبون لإلقاء حمل ثقيل ينأون به، يحفظ عن ظهر قلب ملامح وجوههم المقطبة حين وصولهم، والمستسلمة المنبسطة حينما يغادرونه. يحفظ حتى وجوه أطفالهم الراكضين يسابقون أهاليهم نحو الشاطئ وقت الوصول، والوجوه ذاتها، ولكن منهكة بتعب اللعب الجميل وقت الإياب. ثلاثون عاماً أمضاها أبو الأنس، في الترحال من نقطة إلى أخرى على طول البحر، بـ«كافتيريا متنقلة»، مهنة رغم بساطتها أحبّها لما تمنحه من حرية في التنقل، وتبقيه في الوقت نفسه، دائماً قرب البحر.
يقول إن رحلته الطويلة بدأت بالعمل بائعاً متجولاً في المهرجانات والمناسبات. وفي عام 1987 كانت له بسطة على شاطئ البحر. بعد ذلك، تمكّن من شراء كشك متحرك مزوّد بثلاجة ومغسلة ومتسع لأنبوبة الغاز. هكذا، كان يحطّ رحاله عند ميناء البحر طوال النهار. أما في الليل، فقد كان جيش الاحتلال يجبره على نقله إلى مركز جمعية الصيادين آنذاك. تفاصيل كثيرة دقيقة جداً يحب أبو الأنس دائماً سردها لمن يعرفه ولمن لا يعرفه، إلى أن استقرت به الحال خلف كافتيريا سمّاها «كافتيريا الشعب».
نسأله: لماذا لم تسمّها كافتيريا الحرية؟ فإذا به يصرخ كمن ديس له على طرف: «هوي في حرية منشان نسمي باسمها؟». يقاطعنا زبون يصرخ بأعلى صوته: «قهوة مظبوطة يا أبو الأنس»، يردّ عليه بالطبقة الصوتية ذاتها: «دقيقة بتكون جاهزة»، يحرك مقادير القهوة بهدوء، مؤرجحاً رأسه طرباً ذات اليمين واليسار على وقع أغنية نجاة الصغيرة «أه لو تعرف وانت معاي بحس بإيه». تنعش نجاة قلبه كما يقول، وتدفعه إلى إنجاز عمله بمرح. وإن سئل عن أكثر الأشياء المحببة إليه أجاب: «بحب كل شيء، وبخاف أموت قبل ما آخد كل شي»، وسريعاً ما يبدأ في شرح شغفه بالأشياء الصغيرة، متع الحياة البسيطة بنبرة حماسية تشد السامعين! هكذا، يحكي عن رغبة ملحة انتابته يوماً في شرب عصير اللوز الأبيض لا الأخضر منه. لم يستطع الانتظار ليوم الإجازة الأسبوعية لتحقيق مراده، فمحل «عصير اللوز» يقع في تل أبيب، ويومها كان هو في مدينة الخليل. لذا، عليه الاستغناء عن أربع ساعات كانت فترة راحته. ماذا يفعل؟ لم يفكر حتى! للتو، ركب قطار تل أبيب، وصل إلى محل العصير المقصود، طلب كأساً كبيرة جداً شربها بمتعة لا تضاهى، ثم قفل راجعاً في موعد عودة القطار ذاته الذي أتى به إلى تل أبيب. ضاعت أربع ساعات راحته؟ لكنه عاد كما يقول ووجهه طافح بالبهجة و«طعم اللوز الأبيض» يملأ فمه بالرضى.
لا تنتهي قصص أبو الأنس، والي هموم البحر، حبه للحياة ورضاه، يدفعك للتفكير ملياً بأسلوب حياتك، بمدى أهمية تلك اللحظات الخاطفة من يومياتنا، لحظات بسيطة قد تمر أمامنا نظن أنها وقت انتظار شيء أكبر قادم. لكنها في الحقيقة، بذاتها، لذة من ملذات الحياة. هذا هو درس العم أبو الأنس. هذا هو درس البحر.



بحر غزة ليس بحراً عادياً! فهو يشهد الكثير من الأحداث. فالطفلة هدى غالية لم تنس بعد فاجعة تناثر جثث عائلتها فوق رمل الشاطئ أمام عينيها ذات صيف. لحظة... دعونا نصحح. ليس بحراً، إنّه قطعة مقتطعة من البحر، سمح الاحتلال للغزيين بالتمتع بها! شباك صيد الأسماك المتمردة على واقعها تحاول تجاوز الخط الأحمر الإسرائيلي بغية تحصيل رزق أوفر، ما يعرّض الصيادين الغزيين للاعتقال واختطافهم هم وقواربهم الصغيرة بواسطة زوارق الاحتلال. إلا أنّ هذا كله لا يمنع الشبان والفتيات من التمتع بالبحر يومياً. نعم، يومياً ولو كره الاحتلال.