البارد | لطالما كانت سيرة حفار القبور تثير المخاوف في النفوس، فما بالك إذا كان الحفار فلسطينياً! غير أن دقائق معدودة يقضيها المرء مع سعيد سويدان، المسؤول عن مقبرة خالد ابن الوليد في مخيم نهر البارد، تكفي لمحو تلك الفكرة، لا بل لاستبدالها بأخرى. هكذا، تعدل تلك الدقائق من التأمل بعمل الرجل والاستماع إلى همومه، صورة حفار القبور النمطية ضمن سياق البؤس الذي يعانيه سكان المخيمات، وبخاصة مخيم نهر البارد. فمن تبعات حصار المخيم والمماطلة بإعادة إعماره، اكتظاظ القبور، الأمر الذي ألقى على عاتق الحفار الفلسطيني مهمة إضافية، هي محاولة التأكد من تحلل الجثث المدفونة منذ خمس سنوات، وصلاحية المدفن لاستقبال جثة أخرى، شرط أن تكون لأحد أقرباء المتوفى السابق، مراعاة للأسس الدينية والاجتماعية. هذا الهم وهموم أخرى يثيرها الفلسطيني سويدان، وهو يتمشى في المساحات القليلة الفاصلة بين مدفن وآخر، كعادته اليومية: يضع زهرة على قبر هنا، أو يرمم قبراً هناك ويعشب أرضه، مفكراً في حلّ لمشكلة بدأت ترخي بثقلها على تفكيره في ظل تزايد عدد الوفيات في المخيم، حيث سجلت وفاة 17 شخصاً في شهر واحد، اللافت أن معظمهم بين عمر الثلاثين والأربعين، وقد توفوا بأمراض قلبية. هكذا لم يعد هناك من مساحات متوافرة في المقبرة إلا لاثني عشر مدفناً فحسب. ومقبرة خالد ابن الوليد، تقع مباشرة خلف مبنى مركز الهلال الأحمر الفلسطيني الذي أنشأته اللجنة الدولية للصليب الأحمر. يظهر قرب مركز الهلال الأحمر من المقبرة وقربه من المستنقعات والمساحات الموحلة، عالمان مختلفين. فخامة في هندسة المركز ومبناه، وضيق في المقبرة إلى حد حشر الجثث في مدفن واحد.
مبالغ طائلة صرفت لمقتضيات الفخامة، بينما أبناء المخيم يتساءلون عن غرفة عمليات، ولو بحدها الأدنى، ويطالبون بما يزيد على الأسرّة الأربعة المتوافرة في المركز الحالي، لاستقبال حالات المرض العادية عوض تكبد مشقة مغادرة المخيم، فضلاً عن حبة الدواء التي كثيراً ما لا يتمكن ابن المخيم من الحصول عليها.
في ضوء الفارق الشاسع بين حاجات أهل المخيم الملحة والعاجلة، وما يعرض عليهم، بدا السواد الأعظم منهم غير معني باحتفالات التسلم والتسليم. فاقتصر الحضور على أشخاص، وجوههم ضاحكة، وألوان ثيابهم زاهية، وسياراتهم فارهة، وكأنهم اجتمعوا من أصقاع الأرض للاحتفال بالختم على المراحل الأخيرة من أعمار أبناء المخيم التي لم يعد متوسطها يتجاوز الخامسة والثلاثين.
سويدان غير المكترث بهمروجة الاحتفال، رغم أنه يجلس على بعد أمتار منه، يختصر أهم أخبار المقبرة التي يعمل فيها: 17جثة دفنت بأقل من شهر واحد، عدا الذين دفنوا في البداوي من أبناء البارد بسبب استمرار تهجيرهم إلى هناك. اثنان فقط توفيا عن عمر بين الستين والسبعين سنة، والباقي بأعمار تراوح بين الثلاثين والأربعين سنة.
أرقام لافتة ومخيفة تطرح أكثر من علامة استفهام حول الأوضاع الصحية والمعيشية لأبناء المخيم، وبخاصة لمناسبة تسليم اللجنة الدولية للصليب الأحمر مركزاً صحياً لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. وهو مركز يُجمع أبناء المخيم، فضلاً عن الحاجة الملحة إليه، على أنه لا يقارن من ناحية الفاعلية الطبية بما كان يتمتع به المخيم من قدرات طبية، جعلته مقصد الفقراء بدءاً من جوار المخيم، وصولاً حتى أقاصي عكار. هذا ما صرح به أحمد محمد عبدو عضو اللجنة الشعبية في المخيم الذي كان يشارك في احتفال تسليم الصليب الأحمر الدولي عيادة صحية للهلال الأحمر الفلسطيني. وأضاف عبدو أن العيادة أكبر من مستوصف وأقل من مستشفى، بل أقل بكثير مما كان متوافراً في المجمع الطبي الكائن في مركز ناجي العلي قبل تدمير المخيم.
يبدو أن الاهتمام بهندسة المركز وفخامته فاق ما عداه، فجرى ترتيب المكان وتنظيفه جيداً، حتى يصبح لائقاً باستقبال رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر يورغ مونتاني، ورئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني يونس الخطيب، ومدير الأونروا في لبنان سلفادور لومباردو وقنصل السفارة الفلسطينية محمود الأسدي. كذلك أُعدّ استقبال مهيب يليق برفعة المقامات الزائرة، فكانت الضيافة مثلاً من إعداد أحد مطاعم الحلاب الذي نقل المأكولات بسياراته الخاصة إلى المكان. حتى الوجوه المستقبِلة بدت بإشراقها ونظافة بزات أصحابها بعيدة كلياً عن وجوه أبناء المخيم الكالحة، وثيابهم الملطخة بالوحل، وخصوصاً في مثل ذلك اليوم الماطر من أيام نهر البارد البائسة. هكذا، تحولت مساحة الخمسمئة متر مربع التي تشمل مبنى العيادة مع مواقف السيارات إلى جزيرة لا تشبه محيطها على وجه الإطلاق. فإذا كان ما بين المبنى والطريق العام مسافة أربعة أو خمسة أمتار، حرص منظمو الاحتفال على إبقائها نظيفة بانتظار انتهاء مراسم الافتتاح على الأقل، إلا أن الانتقال مسافة متر واحد بجانبي المبنى أو خلفه (حيث يقضي سويدان وقته بين الموتى)، دونه عقبات الخوض في الوحل وبرك المياه.
يستكمل سويدان الذي حفظ أعمار المتوفين وجنسهم وتواريخ وفياتهم وأسبابها تفاصيل روايته. امرأتان مسنتان، امرأتان في العقد الثالث، ثلاثة رجال في العقد الثالث بمرض السرطان، وعشرة رجال بالذبحة القلبية في العقد الثالث أيضاً. وماذا يُتوقع، يقول سويدان من رجل خسر منزله، وفَقَد عمله، بل هو لم يعد يجد مكاناً يدفن فيه موتاه؟ لا يُبَعِّد سويدان شهوده، بل يتحدث عن عائلته وأهله، قائلاً: «كنا ستة إخوة نسكن في مبنى من ثلاث طبقات، دمر المبنى وتشتت العائلة». ثم يصر سويدان على الانتقال إلى منزله ليروي معاناته مع أسرته حيث يقيمون في كاراج لا تدخله أشعة الشمس أبداً، تماماً كما هي حال أخيه وأسرته وحال أخته وأسرتها الذين يعيشون في كراجين ملاصقين. كبير أولاد سويدان، إيهاب، مصاب بمرض الصدفية، وإياد مصاب بالربو. أما الصهر، فقد توفي بذبحة قلبية عن عمر 32 سنة، يوم ولدت زوجته.
في سياق مقابلة سويدان سمع من مكبرات الصوت الخاصة بمسجد خالد ابن الوليد المجاور خبر وفاة عماد محمد الحسن عن عمر 38 عاماً. يبتسم الرجل بمرارة ويقول: «صحّح، المساحة الباقية من المقبرة باتت تتسع لـ11 مدفناً فقط».
يؤكد الحاج أبو عماد اللوباني المدير السابق للمخيم كل ما قاله سويدان، ويذكر أن ابن أخيه حسن توفي فجأة بينما كان يتناول طعام الغداء عن عمر 32 سنة، وأن صالح شقيق حسن توفي أيضاً بالذبحة القلبية عن عمر 38 سنة. ويضيف الحاج أن الإحصاءات الصحية في المخيم تشير إلى أن ما نسبته 35 بالمئة من أبناء المخيم، مصابون بداء السكري وبارتفاع ضغط الدم.
أما صالح عبد الرحيم، مسؤول جبهة النضال الفلسطيني في الشمال، فقد ضاق ذرعاً كغيره من المسؤولين، في تدبير أمور هي في غاية البساطة لولا تعقيدات واقع المخيم، ومنها السماح باستخدام الملعب الموجود خلف المقبرة مباشرة. فيقول ساخراً: «لم يبق أمام أهالي المخيم إلا زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية والطلب إليه استصدار فتوى بحرق موتانا أو إلقائهم في البحر».



على هامش تسليم مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني اجتمع سلفادور لومباردو مع ممثلي الفصائل الفلسطينية واللجنة الشعبية في مخيم البارد، وبرّر تقصير الأونروا تجاه أزمة المخيم بامتناع الدول المانحة عن سداد التزاماتها، مقدماً إثباتاته بالأسماء والأرقام. لكن لومباردو أفصح عن رقم يستحق التوقف عنده؛ إذ في الشهر المقبل تكون الولايات المتحدة الأميركية قد سددت كامل مستحقاتها البالغة 25% من كلفة إعادة الإعمار. في زمن القبض على عملاء السي أي إيه، ألا يستحق الأمر من الدولة اللبنانية التدقيق في المساهمة الأميركية وإعادة النظر في ملف إعمار المخيم حتى لو وضعت جانباً مأساة أهله وحقوقهم الإنسانية؟