النائب السلفي تلعثم. حاول أن يسير على خطى زملاء أضافوا عبارة إلى قسم مجلس الشعب، لكنه أسقط من عبارة «بما لا يخالف شرع الله»، أهم كلمة، وهي «لا»، وذلك في أول خروج عن النص قاده سلفيون في استعراض لإعلان الوجود تحت قبّة لم يحلموا بالاقتراب منها، وقامت تنظيماتهم في الأساس على تكفيرها واعتبارها من رموز «دولة الكفر». الخطأ لم يكن الكوميديا الوحيدة طبعاً، لكنه كان تعبيراً عن مفارقات ميّزت أول مجلس بدون أساطين الخبرة والاحتراف بحكم احتكارهم للبرلمانات، وسيطرتهم على طقوسه. السلفيون يعبّرون عن هشاشة التوافق بين الديموقراطية ونظرتهم إلى الإسلام، كما أن نواباً من الثورة أعربوا عن شعورهم ببعد المسافة بين النائب والثائر بارتداء وشاح أصفر مكتوب عليه «لا للمحاكمات العسكرية»، وخرجوا عن نص القسم بعبارت من نوع «... واستكمال أهداف الثورة» أو «... والحفاظ على حق الشهداء». الأكثر التزاماً بالنص كانوا نواب «الحرية والعدالة». اتجاه على ما يبدو سيتّسع لحزب «الإخوان» الذي سيكون ملتزماً بالنصوص ليعبّر عن حالة وسط تنقذه فيها النصوص. سعد الكتاتني الذي فاز برئاسة المجلس، رفض الخروج عن اللائحة بعدما طلب منافسه (من حزب الوسط) عصام سلطان أن يتحدث كل مرشح إلى المنصب، وهو اعتداد بواقعية تقوم على تطبيق النصوص بحذافيرها، فـ«الإخوان» هم أكثر التزاماً بنص الإعلان الدستوري أكثر من المجلس العسكري نفسه، كما أنهم، رغم تأكدهم من فوز مرشحهم، إلا أنهم أصرّوا على الالتزام بلائحة وضعت في مجالس تحسم مناصبها بل وكتلتها الأساسية بالتعيين. كلمة الكتاتني لم تخرج عن النص، لكنها أثبتت «واقعية» تقف في منتصف المسافة بين العسكر والشهداء، ليحتل «الإخوان» موقع الوسط في هندسة الفراغ السياسي الجديد. هنا أصبح «الإخوان» مركز واقعية جديد، تطوّق كوادرهم مبنى مجلس الشعب لحمايته من التظاهرات، وينعم نوابهم بالتجوال في بهو المبنى العتيق وممراته. التجوال يعبّر عن انتصار رحلة طويلة، هي الأطول في تاريخ السياسة المصرية؛ ثمانون عاماً عبر فيها «الإخوان» من الهامش إلى المركز، وقفزوا إلى منصة أول مؤسسة تكتمل بعد الثورة. الرحلة تتوازى مع رحلة البرلمان المستمرة منذ ١٨٦٦، لكنها بدت أمس كأنها التجربة الأولى. فالاستبداد يأكل الزمن والخبرات، ويلقي بها في دوامة الفراغ السياسي.
لا تقاليد ولا تفكير جديد، إنها خطوط مرسومة يحاول النواب الجدد محاذاتها ليبدوا كأنهم أهل لملء الفراغ الذي احتلته حاشية حسني مبارك ٣٠ عاماً. بين الفراغ السياسي والفراغ السلطوي، ليس هناك أقدر من «الإخوان» على تأدية دور يثير الجدل: هل يريدون وراثة دور «الحزب الوطني»؟ هل يلعبون لتغيير الدولة المصرية من أعلى بعدما مهّدوا الطريق من أسفل؟ إجابات «الإخوان» تميل إلى أنهم ليسوا في اتجاه تحقيق حلم لثمانين عاماً بدولة الخلافة، لكنهم يميلون إلى القيام بدور آخر يمنحون فيه لقواعدهم ميزة بديلة، وهي أنهم مثلاً «الحزب الكبير الذي استكمل الثورة». هل يمكن أن تكتمل الثورة بدون تغيير قواعد السلطة؟ بدون تحقيق العدالة؟ بدون خيال لا يستسلم للواقعية الثقيلة؟
الواقعية تقول إن العسكر و«الإخوان» سيتفقان لإعادة بناء ديكتاتورية قلبها عسكري وواجهتها دينية. إنها معادلة تجديد الدولة التسلطية. الثورة تعني أن هناك قوانين جديدة لا تجعل الواقعية تنتصر انتصاراً كاسحاً. لم تعد مقبولة دولة يديرها عسكر مقتنعون بالمدنية ويضعون شعباً في حالة طوارئ ٣٠ عاماً كاملة. لهذا تبدو محاكمة مبارك ونظامه، في موازاة بداية أعمال مجلس الشعب، مهمة في طريق إعادة البناء. المحاكمة وصلت إلى مرحلتها الكوميدية مع مرافعة محامي مبارك، فريد الديب. أوهام فريد الديب تكمل الفيلم الكوميدي الذي كتبه سيناريست السلطة.
السيناريست كتب لكل دوره على طريقة السينما التقليدية، وفريد الديب اندمج في الدور كأنه ممثل يعلن عن نفسه بطريقة «أوفر اكتينغ» (اندمج أكثر من اللزوم في دوره) كما يسمّيها أهل التمثيل. الديب أكثر احترافاً في كوميديا السلطة من جوقة انطلقت في الفضائيات بشعار «الجيش حمى الثورة». وحتى إذا كان هذا صحيحاً، فهل هذا يبرّر جرائم ما بعد إزاحة مبارك؟ هل هذا يبرر محاولة إعادة بناء ديكتاتورية جديدة عبر العسكر؟ الديب مضحك لكن جوقة المجلس العسكري مثل الدواء المنتهي الصلاحية، يوهم بالعلاج بينما يحمل الموت.
ما كل هذا النفاق؟ يمكنهم أن يعلنوا تأييد المجلس العسكري وديكتاتوريته الجديدة بدون أن يتهموا المختلف معهم بالعمالة والخيانة والتخريب. لكنهم مخلصون، فالديكتاتورية تعني إلغاء الآخرين وتحويلهم إلى فريسة، ولن تنجح محاولة المجلس العسكري إلا بشيطنة الثورة. إنهم يبحثون عن فريسة. «البصّاصون» أو الاستخبارات وناشرو الروايات المثيرة ينتشرون في كل مكان. يطاردون الروح التي وُلدت منذ أقل من عام، يتابعون أماكن انتشارها ليعثروا هناك على فريستهم، الشيطان الذي يستحضرونه ليكون بطل روايتهم القديمة الجديدة.
النسر الجريح الذي يدافع عنه المحامي الكوميدي لم يعد له مكان في دولة لا تنتظر أبطالاً وهميين، لكن المحامي يريد الاستفادة من صراع المجلس العسكري وجوقته لتوقيف خيال الثورة. يريد أن يكون واقعياً أكثر من المجلس نفسه، وهذا ما فجّر الكوميديا. وسيفجّرها أكثر مَن يتصوّر أن هذا أوان الدولة الدينية، أو حلم «الإخوان» القديم في إقامة دولة الخلافة في مصر. لا عسكرية ولا دينية، لا مجال إلا لدولة تبني برامجها على تحقيق الحياة السعيدة للفرد العادي. الدولة لم تعد كياناً متعالياً يعمل الجميع في خدمته ويحدّد الكهنة مصالحه. الدولة تدير المصالح ولا تحددها، ولا مكان فيها لكهنة يرتدون الكاكي أو يطلقون اللحى. الدولة فضاء يتّسع للجميع بلا وصاية، والشرعية الوحيدة لمن يحقق الحرية والأمان للفرد العادي. من يغلق الفضاء المتسع ضد الخيال الجديد يُثر الرعب طبعاً، لكن نهايته لا تخلو من كوميديا مثل مبارك ومحاميه، وقريباً مثل «المجلس العسكري» وجوقته. إنهم جميعاً أبناء واقعية تشبه من تصوّروا أن الراديو علبة عفاريت، وها هم الآن في عصر السرعات الفائقة للتواصل الاجتماعي. إنها لحظة سقوط واقعية الديكتاتور. هل يحدث الصدام غداً بين خيال الثورة المقلق، وواقعية تجد من ينتخبها؟