لم ير أحد ملامح وجهها، بدت مجهولة للجميع. صورتها جددت الثورة. صنعت فوراً فيضاناً يواجه جبروت الحذاء العسكري. الجندي لا يعرفها، يتصرف ضمن ماكينة تتحرك بزرّ في الغرف العالية. لم تخرج الى النور، كما لم تخرج فتاة أخرى، أراد الجنرال الحنون زيارتها في المستشفى بعدما سحلها جنوده وتركوا علاماتهم على وجهها. الفتاة طردته، رفضت حنانه الفاشي، وعاقبتها العائلة بحبسها في غرفتها وحرمتها من العمل في الجامعة.
سرعة نقل الصورة، وصناعة شبكة تواصل جماعية، علامتان فارقتان خلقتا سرعة جديدة تماماً، علامتان لم تدركهما السلطة وهي تعيد إنتاج القهر بسرعته القديمة.
سرعة الاتصال تخلق وعاءً من التفكير الجماعي على الهواء، وتخلخل مركزية الرواية وصناعة الأبطال. ارتبطت الثورة بالصورة، وبالأفراد العاديين. صورة الجثث تلقى في أكوام القمامة، والجندي الذي يسحل فتاة أشعل الغضب في موقعة «محمد محمود». والفتاة التي عرّتها الوحشية جعلت الآلاف يخرجون من بيوتهم ليدافعوا عن الضحية التي لا يعرفون حتى وجهها.
الضحية تقود الثورة، وجسارتها تفتح باباً مغلقاً في الأرواح الخائفة، اهتمام الناس بمولود علاء عبد الفتاح إشارة الى تحوّل لم تعد فيه السلطة هي صانعة الحكايات. شاب في الثلاثين وقف وحده أمام جبروت المؤسسة، رفض المثول أمام المحاكم العسكرية. فعل يتجاوز الرفض الى حكاية عن قوة الفرد في مواجهة دولة استبداد تعيش على تحول المجتمع الى قطعان تسوقها في الصباح نحو مكاتب ومصانع، وتعيدها الى البيوت في المساء بعد أن تكون قد اكتملت رحلة الترويض.
سميرة ابراهيم، خرجت من قفص الأخلاق البليدة لتواجه «سلطة» صنعت بالخوف قداستها، وأحمد حرارة أكد بفقدانه نور العين قيمة الكرامة والحرية، وأن الاستسلام للقهر والخلاص الفردي هو عمى أكبر. علاء امتنع عن الامتثال لخطيئة تمنحها السلطة العسكرية قوة القانون. الاستسلام لخطايا تستخدم القانون للقهر، تكسرت مع الارادة القوية لفرد واحد.
هؤلاء جميعاً حكايات جديدة كشفتها الثورة التي جعلت مصر تكتشف نفسها بعد ٦٠ سنة من ثقافة القطيع القائمة على وطنية الامتثال للأوامر. المجلس العسكري يحارب، بكل ما أوتي من أدوات وأجهزة قمع، للدفاع عن الجمهورية القديمة، وإحياء جمهورية الاستبداد وحكم الأجهزة الأمنية، الجمهورية الشمولية، حيث الحاكم أو السلطة الحاكمة هي كل شيء.
يتهم المجلس المختلفين معه بالخيانة، ويحارب كل الكيانات التي لم تدخل حظائر التدجين، ويشنّ حرباً نفسية لإعادة ثقافة القطيع. كل هذا باسم «وطنية» ترى في كل المعارضين عملاء وواجهات لقوى خارجية. هذا ما كان يفعله مبارك بالضبط. كان يتحدث عن «المصالح العليا للوطن»، والتي لم تكن سوى قيم غامضة يمكنه باسمها أن يروّض شعباً كاملاً إما بالتخويف أو بالتخوين.
«الوطنية» هي الطاعة في رأي من يمسك السلطة، ويروّض الشعب الى الطريق الذي يريد. كانت «الوطنية» أو قمتها العالية هي الحرب مع اسرائيل، وعندما انهزمت القوات المسلحة أصبحت الوطنية هي الاستنزاف فالحرب الكبرى، ثم فض الاشتباك. وهنا اختلفت الآراء بين «تفاوض» و«لا تفاوض». لكن السلطة أصرّت على أن اختيارها هو الوطنية. هي نفسها التي اعتبرت أن الوطنية هي السلام مع إسرائيل، والمختلف معها جاسوس وعميل لقوى خارجية، ويحاكم ويوضع في السجون.
وهكذا فالمصالح العليا هي ما تراه السلطة وتريده. والخارج عنها جاسوس، وحاقد ومأجور. هذه تقاليد ما سميته من قبل «الوطنية» الكاكي، وطنية الطاعة والطوابير وقطعان تحارب بأوامر وتسالم بأوامر. المشكلة عندما انتقلت هذه الوطنية الكاكي الى المجال المدني، وطلبت السلطة من الشعب التحول الى «جنود» في معركة لا أحد يعرف متى تنتهي.
هل يُعقل أن مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي تقنع فيه السلطة شعبها بأنه معرّض للمؤامرات ولا فرق بين عبد الناصر والسادات ومبارك والمجلس العسكري؟ هل من الطبيعي أنّ كل معارضة لا تسمع الكلام تصبح مأجورة وتعمل ضد «المصالح العليا»؟
الحقيقة أن هذه كلها مفاهيم مستوحاة من تصور آدولف هتلر عن الدولة. تصوّر يضع الشعب في حالة طوارئ، ويبعده عن المشاركة أو المطالبات لأننا في «حرب» وهي شيء لا يفهمه سوى قلة قليلة، أو خبراء هم الذين يعرفون وحدهم «المصالح العليا» للوطن. وهذه تصورات واهمة واهية لأن المصالح العليا للوطن هي الفرد الذي يجب ان يشعر بالأمان والكرامة والحرية والعدالة قبل الخبز دائماً.
الفرد هو الأمن القومي في الدول الديموقراطية، حين لا يتعلم الشعب الديموقراطية ولا الوطنية من الجيوش. لا يعود الكاكي مسطرة الوطنية. المجتمع يصنع حكاياته ومفاهيمه، وهنا تشتعل حرب الأجهزة القديمة كلها ضد المجتمع لإعادة المجتمع الى الحظيرة والمسطرة الى السلطة.