القاهرة |«أبلغ من العمر سنة إلا دقائق قليلة... ولدت حين ولدت ثورة 25 يناير 2011... هذا فقط ما يحسب من عمري». عبارة رددتها ألسن العديد من المصريين من الذين باتوا ليلتهم في ميدان التحرير في القاهرة ليلة الخامس والعشرين من يناير، استعداداً لاحياء ذكرى مرور عام على اندلاع الثورة. لم يثنهم المطر الذي تساقط على القاهرة ولا موجة البرد التي تضرب عاصمة بلاد النيل ولا حتى محاولات الاسترضاء التي لجأ اليها المجلس العسكري قبل ساعات من بدء الاحتفالات باعلانه رفع حالة الطوارئ «باستثناء مواجهة حالات البلطجة»، او الشائعات التي تحدثت عن نذر مواجهات قاسية ستحدث.
فمن وضع حياته على كفه قبل عام متحدياً آلة قتل النظام وعبثيته لن تردعه أي معوقات عن ايصال رسالة لحكام مصر الجدد بأن «حكم العسكر لن يدوم»، لأن من اسقط نظام حسني مبارك قادر على إسقاط أي نظام آخر.
المرابطون في ميدان التحرير لم يكونوا وحدهم من يستعد لاحياء الذكرى، فأينما سرت في المدينة شعرت بروح الثورة تتنقل إلى جوارك. على واجهات المحال التي ازدانت بشعارات الثورة، في احاديث الناس المتنقلة بين طاولات المقاهي، في بضاعة البائعين المتجولين وفي سيارات الأجرة، حيث غصت الاذاعات إما بالاغاني الثورية أو بالبرامج التي تتناول الثورة ومآلاتها بعد مرور عام على اندلاعها.
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كانت القاهرة على موعد مع وقفات احتجاجية ضد ممارسات النظام وتحديداً أجهزته الأمنية قبل أن تتحول الى ثورة أطاحت أحد أبرز الرؤساء العرب، فيما الثوار الذين وحّدهم العام الماضي مطلب اسقاط مبارك انقسموا هذه المرة بين مطالب باستكمال الثورة، وبين من يرى انها قد حققت الكثير من الانجازات وقد حان الآن وقت الاستقرار. وهو ما انعكس بوضوح أول من أمس في ميدان التحرير، الذي غصّ بمنصات متعددة.
منصة الاخوان المسلمين، وهي إحدى ثماني منصات ارتفعت في الميدان، كانت مع اولى ساعات الاحتفال الأكثر تنظيماً واحتشاداً. المشاركون فيها لا يمكن تخطي حماستهم، ورسائلهم عديدة. ولعل أبرزها كانت من خلال الخطب التي طالبت بمنح نواب حزب «الحرية والعدالة»، الذراع السياسية للاخوان، الفرصة لتحقيق مطالب الشعب. شعار «اسقاط حكم العسكر» وحد «الإخوان» مع شعارات باقي المنصات، على الرغم من عدم اقتناع العديد من الناشطين المستقلين والقوى السياسية الاخرى بصدقهم في تبنيه، فيما كان التضامن مع ثورات الشعوب العربية الاخرى جلياً. فعلت اصوات شبان وشابات الاخوان بشعارات من قبيل «يلا يا ثورة لفي ودوري... حيوا صمود الشعب السوري». اليمن أيضاً كان حاضراً في هتافات «الاخوان» من خلال شعار «باطل... باطل... علي عبد الله صالح باطل». ولم تسلم اسرائيل من الشعارات المنددة بأي محاولة لتعزيز العلاقات معها.
مع انقضاء اولى ساعات النهار، بدأ المشهد في ميدان التحرير يتبدل. الحشود الغفيرة التي غص بها الميدان وجعلت التنقل فيه أمراً مستحيلاً، قلبت موازين قوى المنصات لصالح شباب الثورة، الذين علت اصواتهم بهتافات كانت الأقسى ضد المشير محمد حسين طنطاوي، وبينها «يا مشير صبرك صبرك... شعب مصر حيحفر قبرك»، «قول اتكلم السلطة لازم تتسلم»، و«ثورتنا فين يا مشير....انا مش حاسس بالتغيير».
من وسط الهتافات المتنقلة من منصة إلى اخرى كان يمكن رصد الاختلاف في وجهات نظر المشاركين حول المناسبة وتوجهات المستقبل. محمد، كما غيره من المحتجين، يؤكد أنه اتى للمشاركة في مليونية استكمال الثورة، وليس للاحتفال بذكرى الثورة. الثورة من وجهة نظره ما زالت بحاجة لأن تستكمل «لأن ما انجز يحتاج الى حماية، فضلاً عن ضرورة استكمال التغيير. فحسني مبارك يحاكم في سجن 5 نجوم ولا يزال إلى اليوم يكلف الدولة مصاريف خيالية لعلاجه. وزير الداخلية السابق حبيب العادلي ما زال الى اليوم بعض الضباط يقدم له التحية العسكرية. القصاص للشهداء لم يستكمل، الدستور لم ينجز بعد.. والأهم أن ممارسات العسكر تجاوزت في ديكتاتوريتها ممارسات مبارك، ولذلك لا بد من استكمال الثورة، حتى تسليم السلطة إلى رئيس مدني يتمتع بصلاحيات كاملة».
موقف تؤيده عبير، الناشطة الحقوقية. عبير كانت حاضرة في ميدان الثورة منذ لحظة انطلاقتها. تتحدث بشغف عن الكثير من المراحل التي عايشها الثوار منذ سنة إلى اليوم، مؤكدةً ان الكثير من العمل لا يزال ينتظر شباب مصر، وهو ما دفعها لتكون من بين اول المتواجدين لحظة اعلان «اتحاد شباب الثورة»، الذي يضم ممثلين عن 8 أحزاب و9 حركات سياسية فضلاً عن قوى أخرى، الاعتصام في الميدان، ليؤكدوا أن الثورة مستمرة ولن تنتهي الا بتحقيق الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية. وهي مطالب تؤكد عبير أن المجلس العسكري وحتى الاخوان المسلمين، الذين اصبحوا اكبر قوة سياسية، غير قادرين على تحقيق اي منها. فالمجلس العسكري، من وجهة نظرها، «أثبت ان مبارك كان أكثر رحمة في المتظاهرين والمحتجّين من المشير ورجاله»، مشيرة بذلك إلى عدد السجناء السياسيين الذين أحيلوا على المحاكم العسكرية وقد فاق العشرة آلاف منذ تسلم العسكر السلطة، فضلاً عن عدد القتلى الذين سقطوا نتيجة القمع الأمني والاستخدام المفرط للقوة من قبل المشير «الذي لا بد من أن يلحق بمبارك حتى يمكن استكمال بناء الدولة المصرية».
في المقابل، فضل علاء القول إنه اتى للاحتفال بنجاح الثورة وليس استكمالها أو تجديدها، «فما انجز لم يكن أحد ليحلم ببلوغه العام الماضي». أما مصدر ثقة علاء، المنتمي الى جماعة الإخوان المسلمين، فمردّه بكل بساطة الى المكاسب السياسية التي حققتها جماعته بعدما تحولت الى أكبر قوة برلمانية وانتقلت من العمل خلف الابواب المغلقة الى الحكم. كذلك يرفض علاء الكثير من الاتهامات التي تلاحق جماعته، وبينها انها تحولت إلى أكبر معيق لتحقيق أهداف الثورة بسبب المساومات التي تجريها مع المجلس العسكري لتحقيق مكاسب لها على حساب الشعب والثوار، مشدداً على ان «الجماعة، كغيرها من القوى السياسية، شاركت في الثورة وسقط لها شهداء وجرحى امتزجت دماؤهم بدماء باقي المصريين». اما سياسيوها، فيؤكد انهم «عانوا من قمع مبارك مثل غيرهم وربما أكثر»، فيما يدافع عن وصول جماعته إلى السلطة بالإشارة إلى أنها «ربما كانت الاكثر تنظيماً والأكثر حنكة في ادارة معركتها الانتخابية في وجه باقي القوى السياسية».
حنكة تظهّرت في الميدان أول من أمس، فبينما كان الناشطون ينتظرون أن تفكك جماعة الاخوان منصتها وتنسحب مع حلول الظلام، فاجأت الجماعة الإسلامية الجميع بإعلان شبابها البقاء في الميدان حتى الجمعة، حيث ينتظر أن يشهد الميدان مليونية جديدة. موقف لم تستطع الناشطة الحقوقية عبير سوى الضحك بسببه، مشيرةً إلى أن «الاخوان أدركوا أن المليونية ستكون حاشدة سواء شاركوا او امتنعوا، ولذلك قرروا مواكبة المزاج الشعبي الذي اثبت ان مرور عام على ذكرى اندلاع الثورة لم يحبطه بل على العكس من ذلك جدد روح الثورة، فأكدت الملايين التي غصت بها شوارع القاهرة وباقي المحافظات المصرية أمس أن التاريخ قد يعيد نفسه في أي لحظة».