شبه نظرية قد لا تعني أحداً
فكّرت كثيراً في ما أصبح عليه الآخرون. تساءلتُ عمّا يريدونه، ولماذا يتصرف الكثيرون مع من يعرفون، كمن يتصرفون مع الغرباء، بل وأوقح. بحثت بين الكلام، فما وجدت جواباً. بحثت بين الإيماءات والتصرفات، لا عمّا أصبح عليه الآخرون فقط، بل عن دوافع هذا «المنطق الجديد». وعندما لم أجد جواباً كافياً ووافياً، ولأن الدموع لا يُعبَّر عنها بتاتاً، فإني عدتُ من جديد لأمارس التأمّل في أكثر الأحياء شعبية وفقراً وعفوية وصراحة واكتظاظاً بالسكان حيناً. وحيناً آخر، بين القبور أو في سكينة الأمكنة المكتظة، وذلك لساعات قلائل من ساعات الفجر الأولى. هذا ما صارحني به صديق قديم، نشترك معاً في العمر نفسه، ونقاوم الجلاد نفسه، بالفدائي نفسه.
وفي محاولة مني لتبسيط الموقف، سألت رفيقي سؤالاً لم يكن أكثر من مجرد جملة عرضيّة. سألته: «ولمَ تبدو حزيناً؟ من الجيد أن تعرف أكثر. الكل يسعى إلى هذا. وعندما يحققون ما يسعون إليه من معرفة مستجدة، يكتشفون أن ما حققوه للتوّ غير كاف. وعلى هذه الحال، فإننا نسعى إلى أن نعرف الآخر وإلى أن نعرّفه بنا دوماً».
واصل صديقي حديثه قائلاً: «ليس غريباً على أي إنسان كامل أن يسعى إلى المعرفة. الشيء الغريب هو أن تكون المعرفة أكثر، عن الآخر أو عنا نحن بالنسبة إلى الآخر، شيئاً غير محبب». قال بألم من اضطر إلى الاعتراف لعائلة فلسطيني راحل، بأن راحلهم لم يقتله العدو الصهيوني، بل نظام عربي معروف بجرائمه.
«ماذا تقصد بكلامك هذا؟»، سألته.
«بعض الأحيان لا جدوى ولا فائدة من المعرفة أكثر». قال بحسرة فلسطيني سعى إلى أن يعرف الآخر ويعرّفه بنفسه، في حين أن الآخر كان يسعى إلى أن يحقق أهداف عدو الفلسطيني دوماً بطريقة أو بأخرى.
«أتقصد بحديثك كملاك يعرف بأن فتاة صغيرة لطيفة محبوبة تحتضر، وهو لا يستطيع مساعدتها؟ أو كمراهق غبي جداً، وهو يعرف ذلك؟»، سألته بأمثلة لأتأكّد من أنني فهمت ما يقصده.
قال: «لا، لا أقصد هذه المعرفة التي تفتح أسئلة وأبواباً قد تفيد لاحقاً، رغم أنها مؤلمة»، ومن ثم دعّم رفيقي ما كان يحاول قوله بمثل معروف، ولكني لم أعرف أنه جواب عن سؤالي. مثال، يثبت عدم جدوى المعرفة الإضافية التي يتحدث عنها.
قال: «قلب في حالته الاعتيادية، يؤمن بما يؤمن به. ينتظره السيد الأشيب (العقل) لكي يخرجه من إيمانه، ولكي يخرجه من الصدمة أو بطريقة أخرى: لكي يخرجه من نفسه. فالمعرفة أكثر هنا لم تكن محببة إلى القلب ولم تغيّر ما آمن به، رغم أنه عبث بأية حال من الأحوال. والقلب هنا لم يستفد من الواقع، ولم تنفعه المعرفة أكثر التي طرحها العقل عليه».
أنا حزين بما فقدته في الآخرين، ولكني أكثر حزناً لما فقده الآخرون بي، ومني ومن نفسي التي أحملها بين يديّ، كقنينة مياه عذبة يمكنهم أن يشربوا منها ما يريدون. وحتى إنهم يمكنهم أن يشربوها كلها عندما يكونون عطاشى. بعضهم شرب ورحل ليبول ما شربه في آذان الآخرين أو قلوبهم، عقولهم أو حماماتهم.
يفعلون هذا بكل فرح كأن يرمي أحد وردة على جثته من دون أن يعرف ماذا يعني ذلك. تدرك أن هذه اللحظة السخيفة ستمر، ولكنك تفكر أن بإمكانك تجميدها. في النهاية كلنا للتراب نعم، لكن الفرق أن أمثالنا يقتلون مراراً، ولكنهم لا يلبثون أن يبعثوا من جديد».
لم يقاطعني عن التأمّل في ما قاله رفيقي سوى (حركة الكوب)، من رفيقه الذي كان جالساً طوال الوقت معنا، وكأن الموضوع كله لا يعنيه. بل كأنه لا يسمع حرفاً مما نقول. فكان يمسك الكوب الذي نتشاطره من أعلاه بأطراف أصابعه، يحنيه قليلاً بأن يميله إلى جهته، ويبدأ بإدارته كأنه يلتقط رجلاً «صايع» من المخيم ويجعله يرقص رقصة الرجل الصوفي. تلك الرقصة التي يدور فيها الصوفي حول نفسه بشكل جميل من دون أن يقع. وانتبهت إلى أن رفيق رفيقي ذاك يبتسم بخبث جميل عهدناه فيه. وبعد أن أعطى الصمت حقه وابتسامته، قال:
«كل منا عاش تحت سقف بحثه. والبعض يبقى يبحث كل حياته. لا أحد يتوقف عن هذا. البعض يبحث عن اللحظة، والبعض يبحث لما بعدها. البعض يبحث عن شيء لينتهي بشيء آخر. لكن الفكرة ليست في البحث، الفكرة تكون بالآخرين أيضاً. فلماذا علينا أن نعطي التفسيرات والدلائل والقرائن لهؤلاء الآخرين؟ هذا مثير للسخرية والاستهزاء، كأن نتكلم على قتل الحيوانات وموضوعات آكلي النبات (فيجيتيريان) لشخص لا يحب اللحوم فحسب، بل يستمتع بالقتل!»
هنا ردّ رفيقي بحماسة: «لندعُ هذا (نظرية الشخص الخطأ)». وهنا تململت قائلاً: «إنها نظرية قد لا تعني أحداً!». فردّ رفيقي بحماسة مرة أخرى: «أي إنها ستكون حينها نظرية الشخص الخطأ».

شاهد عيان * ـــــ مخيم برج البراجنة من أعضاء كتيبة خمسة