لندن | طوال فترة الأزمة السورية، تحول الوضع الأمني من سيئ إلى أسوأ، وقيد النظام حركة الاعلاميين الذين لم يبدوا استعداداً للالتزام الروايات الرسمية. سيطرت البروباغندا الاعلامية على موجات الأثير، وازدادت صعوبة التحقق من الأحداث على نحو مستقل. فجأة برز المرصد السوري لحقوق الانسان من مقره في بريطانيا ليصبح المصدر الرئيسي للمعلومات المرتبطة بانتهاكات حقوق الانسان داخل البلد. تستشهد وكالات الأنباء، كوكالة الصحافة الفرنسية ورويترز، بالمرصد مرجعاً لها، بالاضافة الى وسائل اعلام أخرى كشبكة «سي أن أن»، وهيئة الاذاعة البريطانية، وقناة الجزيرة وغيرها.
بحلول نهاية العام الماضي، ظهر مؤسس المرصد في وسائل الاعلام وعرّف عن نفسه بـ «رامي عبد الرحمن» ولُقّب بمهندس الشبكة. وفي شهر تشرين الثاني 2011، انتشرت شائعات تفيد بأن اسم رامي عبد الرحمن كان اسماً مستعاراً لمؤسس المرصد السوري لحقوق الانسان. كثيرون ممن شككوا بصدقية المرصد عدّوا الشائعات «دليلاً دامغاً». نشرت مجموعة منافسة الاسبوع الماضي رسالة ادّعت فيها أنها تتكلم باسم المرصد السوري، واتهمت عبد الرحمن بتزوير اسمه والاستيلاء على المرصد. عندها، تبين أن الشكوك في محلّها.
عرقل النزاع السياسي بشأن المرصد السوري لحقوق الانسان اجراء تدقيق ملحّ في كل الوقائع ذات الصلة. اذا امعنا النظر في هذه الوقائع، يتبين لنا أن مسألة الاسم المستعار هي العنصر الأقل أهمية في النزاع. يعكس الخلاف القائم بين المجموعتين المتنافستين حول ملكية المرصد السوري لحقوق الانسان، أكثر من أي شيء آخر، خلافاً سياسياً أوسع يتشكّلُ بين المعسكرين المعارضين الأبرز في سوريا: المجلس الوطني السوري، وهيئة التّنسيق الوطنيّة لقوى التغيير الدّيموقراطي في سوريا، وكلاهما على خلاف متنامٍ حول الحاجة الى تدخل أجنبي.
تتمثل القوة المحركة للمجموعة المنافسة (www.syriahr.org)، التي نشرت بياناً يهاجم مجموعة عبد الرحمن (www.syriahr.com)، بشخص الطبيب السوري مصعب عزاوي، المنفي من سوريا والمقيم في لندن. وتضمنت حملة التشويه التي اطلقها العزاوي مفاهيم طبقية. فقد وصف عبد الرحمن، في بيانه، بأنه شخص «لا يتقن اللغة الانكليزية، ومستواه العلمي متواضع جداً، ومهنته الاساسية تركيب الصحون اللاقطة»، لكن صدف أنه ساهم بنشر مقالات باللغة العربية على الموقع الالكتروني الذي يديره العزاوي. رغم كل هذه المؤهلات «المتواضعة»، قيل إن عبد الرحمن على صلة برفعت الاسد، العمّ المنفي للرئيس السوري بشار الأسد، والذي أثار استياء القوى المؤيدة للنظام والمعارضة له على حد سواء. ربّما كان الكشف عن اسم عبد الرحمن الحقيقي ــ اسامة سليمان ــ في البيان من أكثر المعلومات الواردة ضرراً.
لكن، بصرف النظر عن استخدامه لاسم مستعار، نفى عبد الرحمن هذه الاتهامات قبل اصدار البيان. وبخصوص اسمه، ظهر عبد الرحمن في شهر تشرين الثاني الماضي على قناة فضائية عربية، مقرها في لندن اسمها «قناة الحوار»، وعرض على شاشتها ما ادعى انه جواز سفره البريطاني وأوراقه الثبوتية السورية التي ذكر فيها اسمه الحقيقي، وهو أسامة سليمان. كذلك نفى وجود أي صلة بينه وبين رفعت الاسد.
يقول عبد الرحمن إنه بصفته ناشطاً معارضاً منذ زمن طويل، ينظّم تظاهرات عديدة أمام مبنى السفارة السورية في لندن، لطالما فضل استخدام «اسم عسكري». في مقابلته مع قناة «الحوار»، قال عبد الرحمن انه ساهم في تأسس المرصد بالتعاون مع زوجة أحد المعارضين السوريين البارزين. وعن مسألة استخدامه لاسم مستعار، قال لـ«الأخبار»: «أدليت باسمي الحقيقي على التلفزيون السوري وعلى فرانس 24، الجميع يعرف اسمي الحقيقي».
وفي مقابلة هاتفية مع «الأخبار»، قال مصعب العزاوي إنه طبيب مستشار بعلم الامراض ويحاضر في جامعتين، وفضّل عدم ذكر اسميهما. يظهر سجل المجلس الطبي العام أنه رغم حيازة مصعب عزاوي على ترخيص من جامعة سوريا لممارسة الطب في بريطانيا منذ العام 2009، الا انه لا يرد في سجل المختصين. وبينما كان يشكك في هوية عبد الرحمن الشخصية وعلاقاته السياسية، يبدو أن عزاوي نفسه كان قد قدم معلومات مضللة عن مؤهلاته أيضاً، ففيما عرّف عن نفسه في النسخة الانكليزية من «بيان استنكار لا مهنية رامي عبد الرحمن» كطبيب وناشط في مجال حقوق الانسان، الا انه وقّع البيان الأخير الصادر باللغة العربية بصفته عضواً في منظمة العفو الدولية. ومن المعلوم أن الانتساب الى منظمة العفو الدولية متاح لأي كان، وكونه عضواً فيها لا يعني أنه مخول ان يوقع بهذه الصفة على العرائض والبيانات.
كذلك ينبغي التأكد من صحة توقيعات الاشخاص على بيان العزاوي المسجلين بصفة أعضاء مجلس الأمناء في المرصد. هاتفت «الأخبار» حسام الدين محمد، أحد الاشخاص الموقعين على البيان، ــ ورد في البيان المنشور على موقع عزاوي الالكتروني أنه «رئيس تحرير» صحيفة «القدس العربي» في لندن، وعدل لاحقاً الى «سكرتير التحرير»، بعد اجراء المكالمة الهاتفية. أكد محمد أنه وقع على بيان باللغة العربية، بيد أنه تردد في الحديث عن الجدال القائم، واقترح أن نتحدث الى عزاوي مباشرة. وعند سؤاله «كم مرّ على تعيينك عضواً في مجلس الامناء؟»، أجاب «لست متأكداً». وعند إلحاحنا عليه، أجاب بأنه عضو في المرصد منذ بدء الاحتجاجات.
وفيما يصر كل من عبد الرحمن والعزاوي على أن عملهما بعيد عن الولاءات السياسية، ترتبط مواقفهما السياسية بخلاف اعظم ينشب بين المجموعات السورية المعارضة حيال مسألة التدخل الأجنبي والخيار العسكري. ويبدو أن الحملة التي يقودها العزاوي لتشويه سمعة عبد الرحمن تأتي في أعقاب خلافات كبيرة بين المجلس الوطني السوري وهيئة التّنسيق الوطنيّة لقوى التغيير الدّيموقراطي في سوريا. وقد تهاوى الاتفاق المثير للجدل الذي ابرم في القاهرة بين رئيس هيئة التنسيق هيثم المناع ورئيس المجلس الوطني برهان غليون إثر مسألة التدخل الأجنبي. وهوجم عبد الرحمن في البيان المنشور بعد اسابيع قليلة.
يؤكد عبد الرحمن لـ«الأخبار» أن بعض أعضاء المعارضة السورية يشنّون حرباً عليه بسبب رفضه لتدخل الأطلسي ونشره المستمر لأعداد ضحايا القوات السورية النظامية. «البارحة اتصل بي أحدهم قائلاً: نحن نريد وقف الحرب ضدك، ولدينا مطلبان: عليك طلب تدخل الاطلسي في سوريا، والتوقف عن نشر أعداد ضحايا الجيش السوري». واضاف «لا يريدونني أن أقول الحقيقة».
يلفت عبد الرحمن إلى أن الحملة المضادة انطلقت بعدما قابل ممثل هيئة التنسيق هيثم المناع في تشرين الثاني. حينها صوب العزاوي اتهاماته تجاه عبد الرحمن متهماً اياه بكونه عضواً في هيئة التنسيق، فيما نفى اي ارتباط يجمعه بالمجلس الوطني. من ناحيته، نفى عبد الرحمن أن يكون أي من المجلس الوطني السوري او الإخوان المسلمين وراء محاولات تشويه سمعته.
وقال عبد الرحمن على قناة «الحوار» إن «المرصد لا ينتمي الى اي مجموعة سياسية، بما في ذلك لجان التنسيق المحلية». ومع ذلك، أشار المناع إلى ان لعبد الرحمن علاقات حميمة تربطه بالمجلس الوطني السوري. ودافع هيثم المناع عن عمل عبد الرحمن، وقال إن الأخير يهاجَم «بسبب اصراره على تقديم معلومات صحيحة ودقيقة». وتابع لـ«الأخبار» «رامي عبد الرحمن أنشأ المرصد السوري، قلة من الناشطين يولون الاهمية للصحة والدقة بنفس الطريق التي يتبعها رامي، وعليه أصبح مصدر ازعاج».
في حديث لـ«الأخبار»، شدد عبد الرحمن على معارضته لتدخل الأطلسي في سوريا على طريقة ليبيا: «حتى لو قتلوا عائلتي في سوريا، لن أطالب بالأطلسي». وأضاف «أريد الديموقراطية، لا تدمير بلادي». بالمقابل، دعا عزاوي الى تشكيل «منطقة عازلة» على الحدود مع تركيا التي من شأنها أن تكون «منطقة محمية من قبل الامم المتحدة»، ويوافق عليها مجلس الامن. كذلك هو يدعم «أي شيء لحماية المدنيين»، بما في ذلك منطقة الحظر الجوي.
في تشرين الثاني، ظهر العزاوي على شاشة «سي أن أن»، مطالباً «بتدخل دولي على شاكلة السيناريو الليبي». الناطقة باسم المرصد السوري، زميلة عبد الرحمن، هيفين كاكو، شددت قائلة «لا نريد حرباً، لا نريد تكرار السيناريو الليبي»، الأمر الذي يظهر تبايناً واضحاً بين المجموعتين.
يصف عبد الرحمن منظمته بغير التقليدية ولا تتبع الأساليب الكلاسيكية للاتصال والنشر المعتمدة من قبل جماعات حقوق الإنسان. منذ بدء الاحتجاجات، يقول عبد الرحمن، ارتفع عديد شبكته من الناشطين على الأرض إلى أكثر من200 شخص: «في دمشق، لدي ستة أعضاء، لكن لا أحد يعرف الآخر. فإذا ألقي القبض على أحد منهم، لن يتمكن من الادلاء بمعلومات عن الباقين». وتؤكد كاكو «ان المرصد لا ينشر أبداً أخباراً لا يتأكد من صحتها، لهذا ازدادت صدقيته مع مرور الوقت». وأوضحت أن المجموعة تحاول التحقق من معلوماتها من مصادر مستقلة متعددة. وأضافت «لا ننشر الخبر (من مصدر واحد) الا اذا أرفقه بشريط فيديو، لأنه لا يمكن انكار ما صور على شريط الفيديو بعد التأكد من صحته».
تنفي كل من مجموعة عبد الرحمن والعزاوي الشائعات بشأن تلقيهما تمويلاً خليجياً، مصرحتين بأنهما مجموعتان من المتطوعين. تفيد كاكو بأن شبكة متطوعيها في سوريا تعمل من دون أجر، وعبد الرحمن (الذي يملك متجراً لبيع الملابس) يدفع لتغطية النفقات، كصيانة الموقع مثلاً، من جيبه الخاص. وكاكو نفسها متطوعة وتشغل منصباً آخر بدوام جزئي وتتابع دراستها أيضاً.
على قناة «الحوار»، قال عبد الرحمن إنه رفض عروضاً وأموالاً من مصادر عربية واميركية، تشمل عرضاً من شخصية لبنانية أميركية. ونشرت مجموعة عزاوي قائمة الضحايا باللغة العربية على موقعها الالكتروني، فيما تسلّم مجموعة عبد الرحمن قائمة الضحايا سراً الى الامم المتحدة ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وتقول إنها لن تسلم قائمتها الى الاعلام. في النهاية، يقول عبد الرحمن إنهم يأملون تقديم قائمة شاملة بالضحايا لاستخدامها مستقبلاً لمحاكمة اولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الانسانية.
والمنهجية المتبعة لدى عزاوي، التي شرحها على الهاتف، لا تختلف كثيراً عن تلك التي أدلت بها كاكو. قال عزاوي إن مجموعته شركة مسجلة، وكل أعضائها من المتطوعين. يزعم أن لديه 240 منتسباً وعضواً، 232 منهم في سوريا. وأضاف أنهم يتمتعون «بصلات جيدة مع الجميع»، بمن فيهم لجان التنسيق المحلية.
في آب 2011، تحقق محرر موقع «الانتفاضة الالكترونية»، علي أبو نعيمة، من خبر انتشر على صفحات الانترنت يفيد بأنه تم قتل أطفال حديثي الولادة في مستشفى حماه عمداً بعدما أطفأت قوات النظام أجهزتهم الحاضنة أثناء حملتهم العسكرية على المدينة. وخلصت «الانتفاضة الالكترونية» إلى أن هذه المزاعم كانت خدعة عممتها شبكة «سي أن أن». فاتضح أن الصورة المرافقة للخبر الذي نشر على موقع «تويتر» تعود الى أطفال مصريين، وأخذت من خبر نشر في شهر نيسان بشأن الاكتظاظ الذي تعاني منه المستشفيات المصرية. وبينما ذكرت «سي أن أن» المرصد مرجعاً للخبر، كتب المرصد بدوره على موقعه الالكتروني أن «سي أن أن» هي مصدر الخبر. علّقت كاكو على هذا الخبر أثناء مراسلتها الكترونياً، لكنها قالت إنهم لم يرفقوا الصورة: «أفاد المرصد بأن الاطفال توفوا خلال الحملة العسكرية على حماه نظراً لانقطاع التيار الكهربائي وعدم توفر المازوت لتشغيل المحركات. لم نقل إنهم قتلوا عمداً».
وفيما أثيرت ضجة بشأن منهجية عمل كل من المجموعتين، عمدت المنظمات الدولية ووسائل الاعلام الى تبنّي الارقام دون أي مساءلة. ومعظمهم تبنى عبد الرحمن مصدراً. وتربط منظمة العفو الدولية علاقة قديمة برامي عبد الرحمن، إذ علمت «الأخبار» أن المنظمة عقدت عدة اجتماعات شخصية مع عبد الرحمن لسنوات طويلة. «تتلقى منظمة العفو الدولية معلومات من المرصد السوري لحقوق الانسان منذ تاريخ تأسيسه عام 2006»، قال مصدر من المنظمة طلب عدم الكشف عن هويته.
واضاف المتحدث باسم المنظمة أنه من «المهم جداً ان نوضح، اننا نتحدث عن المرصد السوري لحقوق الانسان الذي يملك موقع www.syriahr.com (باللغة العربية، مع ترجمات للانكليزية متصلة بصفحة الفايسبوك)». وأفاد المتحدث بأن المنظمة لا يمكنها تأييد «مجموعة منفصلة» ذات عنوان www.syriahr.org (الموقع التابع للعزاوي، مع ان المتحدث باسم المنظمة لم يسمّه).
(شارك في اعداد التقرير من بيروت انطون عيسى، سيرين أسير، وبسام القنطار)


نسخة مترجمة الى العربية عن النص الانكليزي المنشور على موقع «الأخبار» باللغة الانكليزية




حروب المواقع الإلكترونية

لا يقتصر الخلاف بين مصعب العزاوي ورامي عبد الرحمن على مسألة الهوية الشخصية والسمعة، بل يتعدى ذلك إلى الأدوار التي لعباها في المرصد. زعم العزاوي على الهاتف أن نطاق syriahr.com كان معلّقاً حتى شهر آب، عندما استولى عبد الرحمن عليه واستفرد به. «النطاق الذي ينتهي بـ.com كان نطاقاً احتياطياً للموقع حتى شهر آب»، قال العزاوي. ويشدد على انه قبيل استخدامه، كان يتم التوجيه تلقائياً الى نطاق آخر وهو syriahr.net. لكن استخدامنا لآلة أرشيف الانترنت التي تحتفظ بنسخة عن الاصدارات القديمة للمواقع الالكترونية ألقى ظلالاً من الشك على هذا الادعاء. اذ تبين أن أرشيف الانترنت حفّظ نسخاً لـsyriahr.com أكثر من syriahr.net، ما يعني أن الأول كان أكثر نشاطاً مع مرور الوقت. إضافة إلى ذلك، تظهر نسخة من سنة 2007 عن موقع العزاوي الحالي أنه باللغة العربية وذو تصميم مطابق لموقع عبد الرحمن الحالي. يظهر بعد ذلك أن الموقع اهمل حتى وقت قريب، ولا شيء محفوظاً في الأرشيف لعامي 2010 او 2011.