نيويورك | الحضور الوزاري الرفيع المستوى في نيويورك، أمس، عبّر بحدّ ذاته عن حجم الضغوط التي تمارَس على سوريا، وهو ما يرى فيه البعض مسعى لتكرار السيناريو الليبي. غير أنّ ذاكرة الروس ليست قصيرة، وهم لا يُلدغون من ذات الجحر مراراً، أو هكذا يعلنون على الأقل؛ فهم وافقوا في آذار الماضي على قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1973، وتعلموا الدرس الليبي، لكنهم رسموا بعد بيان مجلس الأمن الدولي الرئاسي، الذي صدر في 3 آب الماضي، خطاً أحمر لما يمكن أن يقبلوه في الأزمة السورية، بحيث لا تكون صورة مطابقة للسيناريو الذي نُفّذ في بنغازي. يقول مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين، في حديث جانبي مع الصحافيين، إن موسكو ترفض أي قرار ضد سوريا، حتى ولو صاغته جامعة الدول العربية، لأنه «يخرج عن إطار ما جرى الاتفاق عليه في آب الماضي بعد مفاوضات شاقة مع المندوبين الغربيين». في ذلك البيان، وُضعت مبادئ وخريطة طريق لأسلوب التحرك، ترتكز على مبدأ وقف العنف من أي جهة أتى، من دون التمييز بين عنف الدولة وعنف المعارضة إلا من حيث الكمّ. والمبدأ الثاني المهم، هو الدخول في عملية سياسية وطنية سورية بعيداً عن التدخلات الأجنبية.
ويتساءل تشوركين: «عندما يفرضون حلاً من الخارج، حتى ولو كان من الجامعة العربية، وخارج الموافقة الرسمية السورية، فأي نوع من الحل يكون هذا إذاً؟». نقطة يرتكز عليها المندوب الروسي لرفض مشروع القرار الذي قدمه مندوب المغرب، محمد لولشكي، ممثِّلاً المجموعة العربية في مجلس الأمن، وبالتنسيق مع دول غربية تقودها فرنسا.
الأمر الآخر الذي أزعج الروس والصينيين، ودولاً أخرى مثل الهند وجنوب أفريقيا، هو التجاهُل الذي تعاطت به الجامعة العربية مع تقرير بعثة المراقبين العرب، التي باشر رئيس وزراء قطر حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني تصويب السهام عليها منذ بداية عملها. أما مندوب جنوب أفريقيا باسو سانغكو، الذي حضر ووزير الخارجية إبراهيم إسماعيل إبراهيم إلى نيويورك الأسبوع الماضي، فقد انتقد أسلوب التعاطي مع المنظمات الإقليمية «بانتقائية مصلحية»، في إشارة إلى أن الاتحاد الأفريقي يرى أنه أُهمل تماماً في الأزمة الليبية، بينما استُخدم رأي الجامعة العربية كعباءة لبسها كل السفراء الغربيين في الأزمة السورية. ورغم أنّ المندوب الفرنسي، جيرار أرو، أقرّ بأن الزعماء العرب غير منتخَبين ديموقراطياً، إلا أنه سلّم بأن الأمم المتحدة جمعية للحكومات. أمر ردّ عليه المندوب السوري، بشار الجعفري، بالتذكير بأن باريس وسواها في المجلس يتعاطون مع الحكومة السورية كما لو أنها غائبة ويتجاوزونها ليقبلوا الحديث مع أطراف من الداخل والخارج نيابة عنها.
جاء حمد بن جاسم إلى نيويورك شخصياً قبل أسابيع طالباً مساعدة دولية من الأمين العام بان كي مون بتدريب عناصر بعثة تقصّي الحقائق العربية لكتابة التقارير «بطريقة إبداعية». لكنه لم يكن مفوَّضاً في الأساس من أي جهة، «وبات يتصرّف بختم الجامعة العربية على طريقة المخاتير القدامى»، على حدّ تعبير منتقديه. هكذا يقرّ رئيس الوزراء القطري ضمناً بأنّ الجامعة العربية عاجزة عن المراقبة في سوريا «بنزاهة». كلام يرى فيه البعض أنه طلب واضح للتدخل الأجنبي في الشأن السوري. فطلب الجامعة العربية إلى مجلس الأمن تدويل الأزمة السورية لم يُرفَق بنسخة من تقرير البعثة برئاسة الفريق محمد الدابي. أمر أزعج الروس كثيراً، وجعل تشوركين يعرب عن استيائه وغضبه، ويطلب رسمياً، يوم الجمعة الماضي، حضور محمد الدابي وفريقه لإطلاع المجلس على مشاهداتهم وشرح كيفية جمع التقرير. ثمّ طلب تشوركين ترجمة التقرير بكل اللغات وتوزيعه على أعضاء مجلس الأمن كوثيقة رسمية. غير أن الدول الغربية تصدّت لطلب حضور الدابي، فيما رحّبت بحضور رئيس وزراء قطر والأمين العام للجامعة العربية جلسة أمس. لكنّ تقرير الدابي سيكون المادة الأولى في أي نقاش داخل المجلس، حتى ولو غاب صاحبه.
كان يوم الاثنين طويلاً في نيويورك؛ ففي جلسة المشاورات الصباحية المتعلقة بالسودان، لم يغب الموضوع السوري عنها، لأن كل الاستعدادات يجب أن تتم لـ«المهرجان» الدولي الخطابي الذي جرى أمس.
حاولت المندوبة الأميركية سوزان رايس التخفيف من المعارضة الروسية لأمور أربعة: الأول والثاني يتعلقان بعدم النية باستخدام القوة في الشأن السوري من خلال مشروع القرار أو مجرد التهديد بها أو بالتدخل. والأمران الآخران يتعلقان بفرض عقوبات عسكرية من نوع فرض حظر على تسليح سوريا أو عقوبات أخرى من نوع منع السفر وتجميد الأرصدة وما شابه، وأخيراً، تأكيد الحرص على أن يكون الحل سورياً بالحوار والتفاهم بين السوريين، بعد إدانة العنف من أي جهة أتى. لكنّ رايس ربطت ذلك بتنحّي الرئيس السوري بشار الأسد وتسليم الرئاسة لنائبه فاروق الشرع، فضلاً عن مضي الولايات المتحدة وأوروبا عملياً بفرض عقوبات تمتدّ من حظر استيراد النفط إلى تجميد حسابات وأرصدة، ومنع شخصيات رسمية من السفر. مع ذلك، قالت رايس «ليس هناك عقوبات، لا يوجد تهديد باستخدام القوة كما زعم البعض. كل ما ورد (في مشروع القرار) مجرد إدانة مباشرة لما حدث، ودعوة إلى الحكومة السورية للوفاء بالتزاماتها التي قطعتها للجامعة العربية وتزكية خطة الجامعة العربية». نفت رايس أن يكون وزراء الخارجية الغربيون، من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والبرتغال، فضلاً عن الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي ورئيس وزراء قطر، ينوون قضاء الوقت في التباحث مع المندوبين الروسي والصيني في تفاصيل مشروع القرار لتعديله، بحيث يصبح مقبولاً أو على الأقل يسلم من خطر الفيتو، وأوضحت أنّ الأمر تُرك للحقوقيين من خبراء البعثات الذين بدأوا اجتماعاً بعد الثالثة من عصر الاثنين ولم ينته حتى قبيل منتصف الليل. النقاشات بدأت بطرح الروس مشروع قرارهم على طاولة البحث، لكنّ الفرنسيين رفضوا البحث فيه وطرحوا مشروعهم المدعوم من العرب، وقد دام النقاش ست ساعات كاملة، وانتهى الاجتماع باتساع الخلاف بدلاً من تضييقه، بحسب مصدر دبلوماسي مطّلع. ومن المتوقع أن تستمر المباحثات بشأن النص بالطريقة الماراثونية نفسها في الأيام المقبلة، بعدما انتهى «مهرجان الخطابات» في مجلس الأمن أمس.