من فتح الأبواب؟ سؤال تنتهي فعاليّته عند السؤال الأخطر: ومن أغلقها؟ بين الفتح والإغلاق، مذبحة هي يوم أسود في تاريخ كرة القدم، كما قال بلاتر، وهي بالفعل الأكثر مأسوية، لا بسبب عدد ضحاياها فقط، بل لأنها خرجت من حدود شغب الملاعب لتدخل في كتالوغ ألاعيب وحيل وخطط الشيطان الرابض في جذور دولة الاستبداد. الشيطان ضابط إيقاع الفتح والإغلاق الذي حوّل اللعب الى تراجيديا، والمتعة الى حلبة قتل ... وثوار الحرية الى ضحايا.المشير طنطاوي استقبل لاعبي الفريق، متخيّلاً أن ما حدث هو «شغب ملاعب». وكعادة سلالة المستبد، فإن المخطئ هو الشعب. سأل المشير: «لا أعرف كيف يتركهم الشعب». لم يحدد من المقصود بـ«هم»؟ ولم يفعل غير منح إشارة الى كورس لوم الضحايا، الذي كانت قمة ابتذاله على لسان مذيع لم يوقفه وعي ولا عاطفة، وهو يصرخ مطالباً بقتل الـ ٢٠ ألف التراس في مصر.
قتل؟ رائحة الدم كانت الخلفية لكورس لوم الضحية. كورس لم ينظر أبداً ناحية القاتل ولا بحث عنه. إنها الضحية المسؤولة عن انتهاكها تحت شعار: لماذا ذهبت الى هناك؟ لماذا ذهب الالتراس الأهلاوي خلف فريقهم؟ لماذا تكوّن الالتراس أصلاً؟
إنهم سكان الركن المنسي من المدرجات، الباحثون عن متعة حقيقية دون صناعة تبيع كل شيء لمن يملك فقط، إنهم الجمهور الذي أصبح نجماً أعلى من النجوم، والمهووسون الباحثون عن اللعب إلى الأبد، إنهم الألتراس العشاق المتيّمون باللعبة، لا بالماكينة التي حوّلتها إلى صناعة رأسمالية لا يقدر على الاستمتاع بها إلا من يملك ثمن التذكرة.
الألتراس ليسوا فقراء، لكنهم يبحثون عن متعة خالصة التهمتها ماكينات ضخمة مضغت كل هذه المتعة وحولتها إلى بضاعة غالية، تحقق لهم الأرباح الخرافية، بينما المتعة أصبحت أقل. الجنون بالمتعة الأصلية ليس كل ما لدى الألتراس، لكن الخروج عن سلطة السوق التي أصبحت تحدد كل شيء، وتصنع آلهة اسمها نجوم الكرة، وتجعل من اللعبة ببساطتها، وحشاً كبيراً ممنوع الاقتراب منه إلا عبر «مروضي الوحش» من تجار وسماسرة وإدارات واتحادات وشركات، إلى آخر هذه المافيا التي لا تهمها المتعة مقارنة بتدوير ماكينة الأرباح.
الألتراس ضد السلطة التي تحمي هذه الماكينات بكل ما لديها من أدوات قهر وسيطرة. إنهم ضد التيار، يبحثون عن متعة قديمة، ويتوحدون بلون الفانيلة وبقوة تجمعهم. هذا بعض ما عرفته عن الألتراس، وكنت أراهم مجموعات فاشية، تدار بمنطق العصبة المتجمعة حول زعيم أو مجلس زعماء، يقودون كل معارك تدمير أشكال السلطة من الأمن المركزى إلى إدارة النادي.
خيالهم هو سر نجاحهم، هذا ما قد تكتشفه بعد صدمة اقترابهم من الفاشية، وتكتشف أيضاً أنهم مثل كل التجمعات المضادة للسوق، تحكمهم علاقات وروابط مخيفة، لأنها لا تلتزم بقوانين أصبح متعارفاً عليها ولو كانت ظالمة. العمال الباحثون عن متعة الكرة في إيطاليا تقريباً هم أول من قرروا تحويل الركن المنسي في الملعب إلى مركز جديد، عندما فكروا في أن يجلسوا في هذا الركن بتذاكر مخفوضة، ويقيموا استعراضهم الذي سيجعل الجاذبية لهم وحدهم. من هنا الألتراس هو الجنون الكامل بالفكرة.
وقد تتحول الألتراس إلى عصابات فاشية، كما حدث في بعض بلدان أوروبا الشرقية، وتقود حروباً أهلية، وقد تجذبها مسارات ثورات التحرر من الديكتاتور، كما حدث في مصر. الألتراس في مصر أحدثت تحولاً كبيراً في هذه المجموعات التي أصبحت نجمة ملاعب الكرة، وصانعة دهشتها. الألتراس كانت في طليعة الثوار يوم ٢٨ يناير بجسارتهم وقدرتهم على تحدي ماكينات الأمن الجبارة. الأمن لم يرحم يومها العزّل والمتظاهرين السلميين، وانكسرت هيبته عندما كسرت الألتراس حاجز الخوف.
ما زلت أقف طويلاً عند النزعة الفاشية في الألتراس، لكنها لم تعد كل شيء.
إنهم التعبير الإيجابي عما يسمى في الأدبيات السياسية «الإناركية»، ويترجم خطأ على أنه الفوضوية، لكنه الاتجاه ضد كل سلطة تقهر الجموع من أجل أن تسعد مجموعات أو نخباً مختارة. وإذا كان جهاز أمن الدولة شعر في أيام العادلي الأخيرة بخطورة الألتراس وخصص لهم فرقة مطاردة كاملة، فإن هناك في الأمن من يتعامل معهم بنفس العقلية القديمة، معتبراً أنهم جموع من رعاع الملاعب، والحقيقة أنهم يضمون كوكتيلاً مدهشاً من الموظفين المهمّين وحملة الشهادات العليا وطلاب المدارس الحكومية وطلاب المدارس الأجنبية وجامعيين وعمالاً مهرة وضباط بوليس وضباط جيش وأصحاب شركات ... وهم بالنسبة إلى شبكة المصالح الموروثة من عصر الانحطاط (مبارك سابقاً)، من مذيعين وصحافيين وإداريين في كرة القدم، مجرد مجموعات منفلتة.
لهذا، لم يسأل أحد من كورس لوم الضحية كيف قتل الالتراس؟ لكنه سأل عن وجود الالتراس ... الكورس نفسه لم يسأل عن قتل الثوار، لكن يدهشهم ويستفزهم وجود الثوار.
هل كانت بور سعيد فخ الالتراس؟ لم تحدث حالة قتل واحدة حتى في مباريات أصعب. هذه حقيقة كاشفة لمن يتصور أن ما حدث مجرد شغب ملاعب. إنها عملية حرّكها من فتح الأبواب لدخول الفرق المسلحة بالأسلحة البيضاء، وأغلقها لتزيد أعداد الضحايا بما لم يتكرر في أشرس المواقع الكروية. لم يحضر مدير الأمن ولا محافظ المدينة مباراة هي موسم الإثارة في المدينة، وهي إشارة الى حالة الغموض التي جعلت الشحن اللفظي أو العنف الاحتفالي لألتراس الفريقين يتحول الى مجزرة ستضع علامات على تاريخ اللعبة.
هل وقع الالتراس في فخ يشبه موقعة الجمل وهم من تصدّوا لها؟ أم أنه حريق القاهرة المتوقع انتقل الى بور سعيد؟
المجزرة وقعت بعد أيام من إلغاء حالة الطوارئ، وفي سلسلة مدهشة من جرائم كأنها كانت تنتظر إشارة بداية. وكلها جرائم تمثل صدمة، من السطو المسلح على بنك أو شركة صرافة، الى ذبح شباب في الملعب. إنها رسالة الى كل مصري: الثورة أصبحت خطراً عليك ... الأمان في مقابل التوقف عن الثورة ... إنه لعب على أسطورة مصر الأمن والأمان ... وصنع نوستالجيا لاواعية لعصر الاستبداد ... كأنه لا أمان بدون استبداد ... ولا استقرار بدون دولة أمنية.
لعبة خطر حولت المتعة الى طريق للموت، والقتل في التظاهرات الى مطاردة في ملعب محاصر. هكذا دفع الألتراس ثمن صدامهم مع السلطة ووقوفهم في صف الثوار. وهكذا توضع الجدران الشفافة بين المجتمع والحقيقة. جريمة تلو جريمة. ولجان لا تصل الى شيء. مجرم مجهول لم تصل إليه أجهزة التحقيق، لتبقى التهمة معلقة على الجميع. من ماسبيرو إلى بور سعيد، وقبل ذلك جمعة الغضب قبل إزاحة مبارك. وبعدها جرائم جاهزة في جراب المستبد لعقاب الشعب على الثورة، كما يقول كل من هرب من خطابات الإعلام المتوازية مع عمل فرق القتل في جرائم تتم على جسر العبور الى زمن ما بعد الاستبداد.
هل كانت الجريمة عقاباً على فتح الملعب على الميدان؟ هل هي محاولة لتوقيف تثوير جمهور الكرة ليدخل البحث عن المتعة في حزمة الحريات المناهضة لعودة الاستبداد؟ شهداء الثورة يمنحونها بهاءً موجعاً، كاشفاً لثقافة عبيد الاستبداد، هؤلاء الذين لا ينظرون أبعد من الثقب المتاح في العلبة المحبوسين فيها، ويلعنون الضحية أولاً.