القاهرة | لم يقم المصريّون بثورتهم ليتخلّصوا من نظام قتلهم ونهب ثرواتهم وسرق حرياتهم واستغلّهم وحكمهم بالطوارئ لمدة 30 عاماً، بل «استجابوا لمخطَّط استخباري أميركي لتقسيم البلاد وإشاعة الفوضى». مخطَّط «نفّذته منظمات صهيونية وإمبريالية تدّعي الحفاظ على حقوق الإنسان». كلام ليس مصدره الرئيس المخلوع المتهم بجرائم قتل الثوار أو أي من رموز حكمه، بل أشخاص يملكون اقتناعاً تحاول حكومات المجلس العسكري أن تطرحه حقيقة مؤكدة تبرّر ملاحقة منظمات المجتمع المدني، والقبض على نشطاء منهم ومحاكمتهم أمام محكمة الجنايات التي يُحاكَم أمامها مبارك ورجاله. كل ذلك في الوقت الذي تستعدّ فيه تلك المنظمات لمراقبة تنفيذ المجلس العسكري لوعده بتسليم السلطة لرئيس مدني منتخب، بنفس منطق مبارك ورموز حكمه في اختلاق قضايا وهمية لإمرار قضايا أكثر أهمية.
دائماً كان يواجه مبارك ورجاله انتقادات المنظمات الحقوقية الدولية ضد سياساته، وخصوصاً تلك المتعلقة بالحريات، بنفس العبارات التي يردّدها العسكر ورجاله اليوم في الإعلام: فالجيش، مثلما كان مبارك، لن يقبل بـ«التدخل في الشأن الداخلي المصري ولا المس بالسيادة المصرية». أما المنظمات الحقوقية المحلية، فيتهمها بـ«العمالة والتمويل الخارجي»، في نسخة طبق الأصل عن استخدام مبارك لنفس الاتهامات لإمرار انتخاباته المزوَّرة، أو إحالة المدنيين على القضاء العسكري، وتبرير قتل المواطنين في السجون وأقسام الشرطة تحت التعذيب.
حكومات المجلس العسكري، التي ينتمي معظم وزرائها إلى نظام مبارك، لم تكتفِ بتكرار عبارات العداء للأميركيين لجذب ود الغالبية الصامتة أو من يسمّون «حزب الكنبة» في مصر، بل دهمت مقار 17 منظمة محلية وخارجية، وقبضت على 43 ناشطاً من جنسيات مختلفة. أما التهمة، فهي الحصول على تمويل «غير مشروع»، بما يخلّ بسيادة الدولة واستعمالها في أنشطة محظورة. هذا بالإضافة إلى تهم من نوع تدريب سياسي للأحزاب، وإجراء البحوث واستطلاع رأي على عينات عشوائية من المواطنين، ودعم حملات انتخابية لممثلي أحزاب، وحشد ناخبين للانتخابات بغير ترخيص، وإعداد تقارير وإرسالها إلى المركز الرئيسي في الولايات المتحدة وتمويل أشخاص وكيانات من دون ترخيص بما يخلّ بالسيادة المصرية. بموجب ذلك، أُحيل النشطاء على محكمة الجنايات لتبدأ محاكمتهم في 26 شباط الجاري.
وقد نفت وزيرة التعاون الدولي، فايزة أبو النجا، التي ظلّت ركناً من أركان نظام مبارك طوال 10 سنوات، أن تكون ملاحقة منظمات المجتمع المدني مرتبطة بفضح انتهاكات المجلس العسكري، ومطالبته بتسليم السلطة للمدنيين. وبرّرت هذه الملاحقة بأن إجمالي عدد منظمات المجتمع المدني قبل عام 2011 بلغ 800 منظمة، في حين أن عدد تلك التي أُنشئت من آذار إلى كانون الأول 2011 بلغ 4500 منظمة، بينهما 80 منظمة أجنبية. وأشارت الوزيرة إلى أن أكثر ما أثار الريبة هو أن قيمة المعونات الأجنبية التي تلقّتها المنظمات بين 2006 و2010 بلغت 60 مليون دولار، في حين أن إجمالي هذه المعونات من آذار إلى حزيران 2011 بلغ 174 مليون جنيه، وهو ما استلزم إصدار الحكومة قراراً بتأليف لجنة لتقصّي الحقائق، وخصوصاً أن إحدى المنظمات تلقّت 273 مليون دولار في يوم واحد. وقائع جعلت المراقبين يتساءلون عن الأسباب التي دفعت أبو النجا إلى الصمت كل هذه الشهور عن تلك المنظمات، ولا تقرر ملاحقتها إلا مع اقتراب المهلة الزمنية التي حددها المجلس العسكري لتسليم السلطة على الانتهاء. الوزيرة أبو النجا لم تكشف لماذا سكتت حكومتها عن فتح فروع للمعهدَين الأميركيين الديموقراطي والجمهوري في مصر منذ 2004، وفجأة تنبّهت إلى أنهما يعملان بلا ترخيص، ويتلقّيان أموالاً من الخارج، وهو ما أرجعه أستاذ العلوم السياسية، الدكتور حسن نافعة، إلى تصاعد الانتقادات التي وجهتها حركات سياسية ومنظمات حقوقية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بسبب أخطائه في إدارة المرحلة الانتقالية.
إلا أنّ إقدام العسكر على ملاحقة المنظمات الأميركية، والقبض على 16 ناشطاً أميركياً، بينهم نجل وزير النقل الأميركي، هو إجراء لم يكن ليقدم عليه مبارك نفسه، وهو ما من شأنه التأثير سلباً على العلاقة بالحليف الأميركي الذي بدأ إجراءاته التصعيدية إزاء هذا التصعيد، من خلال التلويح بقطع المعونة الأميركية السنوية عن مصر، مع إصرار المجلس العسكري والحكومة، على لسان أبو النجا نفسها، على التصعيد ضد واشنطن. وقالت أبو النجا: «إن لم تكن واشنطن حذرة، فإنها ستدفع مصر لتكون أقرب إلى إيران». وتابعت بلغة أقرب إلى التهديد «تمتلك كل دولة أوراق ضغط في الحقل السياسي، ومصر ليست استثناءً». كلام رأى فيه نشطاء المجتمع المدني مسرحيةً هزلية وادعاءً لبطولة كاذبة. فوفق رئيس «المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة»، المحامي ناصر أمين، فإنّ الهدف من محاكمة النشطاء هو إيهام الرأي العام بأن هناك مؤامرة خارجية على مصر، لافتاً إلى أن المجلس العسكري لن يستطيع التخلي عن المعونة الأميركية بأي حال من الأحوال، بدليل أن «قيمة المعونة الأميركية لمصر 1.5 مليار دولار، 1.3 مليار منها يذهب إلى الجيش».



يملك بعض المراقبين تفسيراً لافتاً لسلوك الحكومة ومن خلفها الجيش المصري إزاء مسألة منظمات المجتمع المدني؛ فبرأي هؤلاء، يحاول «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» الحاكم، الضغط على الإدارة الأميركية لمساعدة مصر في الحصول على تمويل من صندوق النقد بشروط تفضيلية، وهو ما يعني أن المجلس يتّخذ من قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، كبش فداء لتحقيق أهداف داخلية وخارجية، شأنه شأن نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك.