القاهرة| كشفت الشهور الماضية في مصر، عن حجم الهوة بين خيال الشارع الثائر من جهة، وواقع الدبلوماسية الرسمية التي لا تزال يحدّها منطق نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك من جهة أخرى، رغم أنّ الهتافات التي جابت ميدان التحرير مثلاً في 29 كانون الثاني 2011، بعد لحظات من اعلان مبارك في حينها تعيين رئيس جهاز الاستخبارات عمر سليمان نائباً له، كانت «لا مبارك ولا سليمان، دول عملاء الأمريكان».
وطبعاً ينسحب موقف المصريين من العلاقات الخاصة مع واشنطن على العلاقات مع إسرائيل، التي لم يجد الثوار في ميدان التحرير أسوأ من الارتباط بها لشتم مبارك قبل اطاحته. هكذا، حين ضاقت بهم السبل للتعبير عن غضبهم من تجاهل مبارك اعتصامهم المليوني المفتوح في أكبر ميادين العاصمة، لم يجدوا إلا هتاف: «كلموه بالعبري ما بيفهمش عربي». لكن أول تصريحات المجلس الاعلى للقوات المسلحة بعد توليه ادارة شؤون الحكم بعد تنحي مبارك، كان عبارة عن تعهد باحترام كل المعاهدات التي وقّعتها مصر. كلام كان يشير بالطبع إلى معاهدة السلام مع إسرائيل «كامب ديفيد».
بدا الأمر آنذاك مبرراً على قاعدة أن الحكام الجدد انتقاليون ولا يحق لهم إجراء تغييرات جوهرية غير ملحة، وخصوصاً أن التبرير صدر عن مشاعر الثوار التي كانت متفائلة بأن المجلس، الذي افتتح عهده بأداء التحية العسكرية لروح الشهداء، باقٍ لستة أشهر فقط، وبالتالي يتسع الأمر بعدها لكل شيء. حتى أن بقاء أحمد أبو الغيط وزيراً للخارجية حتى مطلع ايار الماضي، الذي شهد إقالة وزارة أحمد شفيق بضغوط من الحشود في ميدان التحرير مجدداً، لم يلفت نظر الرأي العام إلى احتمال الإبقاء على السياسات الخارجية السابقة للرئيس المخلوع، والتي كان أبو الغيط رمزها، وهو ما تجلى خصوصاً بما قبل وما بعد العدوان الاسرائيلي على غزة الذي أعلنته وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في مؤتمر صحافي ضمها مع أبو الغيط في القاهرة.
لكن، بعد تظاهرات حاشدة أمام السفارة الإسرائيلية في أيلول الماضي طالبت بقطع العلاقات مع إسرائيل، احتجاجاً على استشهاد جنود مصريين على الحدود على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، أصبحت «الفرصة سانحة جداً أمام مصر للمطالبة بتعديل كامب ديفيد إذا أرادت، وهو ما يبدو أنه أقلق إسرائيل فعلاً»، على حد تعبير نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية محمد شاكر. غير أنّ السلطات آثرت في حينها إطلاق الرصاص على المتظاهرين والتراجع عن بيان صدر عن رئاسة مجلس الوزراء أعلن سحب السفير المصري من تل أبيب، ولم تحصل مصر حتى على اعتذار رسمي على مقتل جنودها، إلا بعد وساطتها في صفقة تبادل الأسرى في مقابل الجندي جلعاد شاليط.
وبدا أن تعاقب ثلاثة وزراء خارجية في مصر بعد الثورة، خلال عام واحد، وهم نبيل العربي ثم محمد عرابي ثم محمد كامل عمرو، لا يعني شيئاً بشأن احتمال تغيير قواعد السياسة الخارجية المصرية، بما فيها ورقة المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و«حماس» التي جرى الاتفاق عليها منتصف العام الماضي. ذلك أن المصالحة جاءت بمبادرة من الشارع الفلسطيني نفسه، الذي ردّد هتافات ميدان التحرير التي تتصدرها عبارة «الشعب يريد»... ليزيد الفلسطينيون عليها «... إنهاء الانقسام». غير أن حتى تلك الاستجابة أسفرت عن ورقة مصالحة لم تحمل أكثر من تعديلات على ورقة عمر سليمان نفسه في مصالحة 2009. وبخلاف ذلك، فإن المصالحة الفلسطينية ظلّت من الملفات التي تلعب فيها الاستخبارات المصرية دوراً محورياً، لا وزارة الخارجية.
وفي غضون ذلك، تعاقبت ثورات عربية كانت ردود فعل مصر حيالها تثير التساؤلات، فـ«المقارنة مع أداء الدبلوماسية المصرية حيال الثورات في عهد جمال عبد الناصر تعيد التذكير بأن الثوار لم يصلوا بعد للحكم الآن»، بحسب المندوب الدائم الأسبق في الجامعة العربية محمود مرتضى، في حديث مع «الأخبار». ويفسّر مرتضى رأيه بأن مصر أبقت على علاقاتها بلا تغيير مع اليمن والبحرين مثلاً، ولم تعترف رسمياً بـ«المجلس الوطني الانتقالي» في ليبيا إلا بعد الانتصار النهائي على نظام معمر القذافي. حقيقة يبرّرها السفير السابق لدى ليبيا ومبعوث مصر إليها بعد الثورة، هاني خلاف، في حديث مع «الأخبار»، بـ«ضرورات تتعلق بأوضاع الجالية المصرية هناك التي يراوح عددها بين 800 و900 ألف في ظل وجود مصالح اقتصادية في ليبيا تتجسد بـ 18 شركة مصرية كانت ستتعرض لمذابح على يد نظام القذافي في حال اعترفت مصر بالمجلس الوطني». وأوضح خلاف أن رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل نفسه تفهّم ما قالته مصر عن أنها تفضّل «الاعتراف العملي» بالمجلس، وهو ما تجسّد بالخدمات التي قدمتها وزارة الاتصالات المصرية مثلاً في إعادة شبكة الانترنت إلى طبرق وبني غازي، احد معاقل الثوار الليبيين، وعلاج آلاف الجرحى في مصر.
إلا أن خلاف، كغيره من دبلوماسيي مصر، لا يزال لا يرى في الثورة طريقاً بحد ذاته، لذلك «لم تتضمن أولويات السياسة المصرية حيال ليبيا حماية الثورة نفسها، بل اقتصرت ثوابت سياساتنا كما نقلتُها للطرفين الليبيين على العمل على إنهاء الصراع بأقل ما يمكن من خسائر في الأرواح، وعدم انتقال الصراع عبر الحدود المشتركة، وضمان حقوق وأمن المصريين هناك، وأحقية الليبيين في إحداث تغييرات تخلق دولة جديدة تضمن الشفافية وحرية التعبير لكن عبر العمل الدستوري الهادئ لا الثورة التي تبقى تكلفتها باهظة».
وفي الأزمة السورية، بدا أن الدبلوماسية المصرية مختبئة تحت عباءة الجامعة العربية وأمينها العام، نبيل العربي، الذي كان صوته طاغياً على كامل عمرو، فلم تسع الدبلوماسية المصرية إلى اتخاذ موقف واضح من الوضع في سوريا إلا أخيراً عبر استدعاء السفير في دمشق، فيما بدا أن صوتها غائب في اتجاه كل ما يعدّ في أروقة الجامعة العربية والمحافل الدولية.



7.5 مليارات دولار معونة اقتصاديّة و16.8 عسكرية


رغم اللهجة الحادة التي حملتها التصريحات الحكومية الأخيرة على خلفية التمويل الأميركي لمنظمات المجتمع المدني المصري، والتي وصلت إلى حد التلويح بإعادة النظر باتفاقية كامب، كما أعلن حزب «الحرية والعدالة» التابع للإخوان المسلمين، فإنّ «الأمر لا يزيد عن كونه توتراً مفتعلاً في العلاقات المصرية ــ الأميركية لا يأخذه الشعب على محمل الجد، إذ لا يُعقل أن السلطة ممثلة برئيس المجلس العسكري المشير حسين طنطاوي (الصورة) قد قررت تبني مواقف معادية للسياسات الأميركية فجأة، بعد عقود من التعاون العسكري»، وفق السفير المندوب الدائم الأسبق في الجامعة العربية محمود مرتضى لـ«الأخبار». وبحسب الكونغرس الأميركي نفسه، تضمّنت تلك المعونة منذ عام 1998 حتى 2011، نحو 7.5 مليارات دولار معونة اقتصادية، في مقابل 16.8 مليارات كمعونة عسكرية غير خاضعة للرقابة البرلمانية. وفي السياق، فإن المعونة الأميركية لمصر العام الماضي، تضمّنت 1.3 مليار دولار ذهبت للأغراض العسكرية، في مقابل 250 مليوناً فقط معونة اقتصادية، ما يعني أن العسكر هم أكبر المستفيدين من بقاء المعونة، ومن غير الوارد أن يعملوا على خسارتها.