لا يمكن اختصار آلام آلاف العائلات المهجّرة من منازلها. لم يغب عن ذهن الأدالبة أيّ تفصيل من رحلة نزوحهم عبر الأراضي الزراعية والطرق الخطرة المليئة بأجساد الشهداء أثناء محاولتهم النجاة.
لم يكن أحد من أبناء إدلب يتوقع أن يتمكن مسلّحو «جيش الفتح» من اقتحام مدينتهم. عشرات المحاولات باءت بالفشل قبل أن يدخلها الشيشاني والسعودي والتركستاني «فاتحاً»، مطارداً الآلاف من أبنائها في نزوحهم.
«الجميع يعلم كيف سقطت المدينة» يقول الحاج يوسف (اسم مستعار)، مستدركاً «لن أنسى قبل خروجي من المدينة كيف قام المسلّحون بركل رؤوس الشهداء في ساحة الساعة، أمام أعين الأطفال. الجيش وكل الجهات المقاتلة للدفاع عن المدينة قدمّوا شهداء لحمايتها، وكان إلى جانبهم المئات من أبنائها. العشرات دفعوا ثمن خيانة ضعاف النفوس، فمنهم من استشهد ومنهم من تم أسره».

طريق الموت

في آذار الماضي، كانت الطريق بين إدلب وبلدتي المسطومة وأريحا تعجّ بآلاف المدنيين الذين رافقوا قوات الجيش المنسحبة، بعد سقوط المربع الأمني للمدينة في أيدي مسلّحي «جيش الفتح».
«كل ما يمكن قوله عن ذلك اليوم أنه بمثابة يوم القيامة؛ الموت كان كثيراً وقريباً من الجميع، والدماء تغطي الطريق. الجثث المنثورة خلف السواتر الترابية لا يمكن إحصاء عددها»؛ هكذا وصفت زوجة المهندس رأفت قادري رحلة نزوحهم من إدلب. يشرح الأخير الحكاية: «عندما شعرنا أن الوضع أصبح خطراً، خرجنا بسيارتنا مع أولادنا الثلاثة نحو المربع الأمني، ومنه توجهنا إلى دوار المطلق المؤدي إلى طريق أريحا. المشهد كان قاسياً لا يمكن لذاكرة أن تتحمله». يتابع واصفاً رحلة الموت التي شهدها: «الناس كانت تتساقط أمامنا برصاص القنص الذي لا يفرّق بين مدني وعسكري وطفل. عشرات السيارات على جانبي الطريق، بعض ركابها استشهدوا داخلها وآخرون دهستهم السيارات الهاربة... كل من مرّ على هذا الطريق لا يمكن أن ينسى المشهد الدموي الذي خلفه الوحوش الذين دمّروا حياتنا ومستقبل أطفالنا».
يختم الأب حديثه «الألم كبير والتاريخ لن ينسى من فعل بنا هذا. لدينا أمل كبير بالعودة إلى مدينتنا».
يواجه المهجّرون من أبناء إدلب معاناة قاسية في تغريبتهم. الغالبية نزحت صوب حماة القريبة. في أحد مراكز الإيواء هناك، تُصادف أمّاً فقدت أبناءها الأربعة. يقول أحد القاطنين في المركز إنها قليلة الكلام، وإن تكلّمت تبكي. في الداخل تجلس فادية، التي ما زالت تسكنها تفاصيل اليوم الأسود؛ «كنت أقطن في شارع الثلاثين. اختبأنا مع عوائل أخرى خوفاً من القذائف والرصاص... أصبحنا نسمع أصوات التكبير، وتبيّن لاحقاً أنها خلايا نائمة من سكان الحي، هي من خرجت وقامت بالتكبير». وتصف لحظة اقتحام المسلحين لمنزلهم «كان برفقتهم نساء وقوائم بأسماء مطلوبات، حيث قمن باعتقال إحدى النساء من جيراننا، ولم نعلم عنها شيئاً».
كانت المدينة تحتضن قرابة نصف مليون مهجّر من أريافها ومن المحافظات الأخرى. توضح مصادر أهلية أن حوالى مئة ألف منهم اختاروا البقاء لعدم قدرتهم على تحمّل أعباء النزوح ومخاطر الطرق. وتشير المصادر إلى أن النسبة الأكبر من أهل المدينة توزعوا بين المدن والقرى الواقعة تحت سيطرة الدولة، بينما اختارت عشرات العائلات الهجرة إلى أوروبا عبر البحر.
يقول أحد النازحين هناك، وهو موظف سابق في مديرية مياه إدلب (فضّل عدم ذكر اسمه)، «هربنا من الموت إلى الذل. المعارضون هنا يقولون عنّا شبيحة، والآخرون يرون أننا بعنا مدينتنا وساعدنا المسلحين على احتلالها». ويضيف أنّ «عدداً كبيراً من أهالي المدينة حاولوا ما بوسعهم لتقديم المساعدة لنا. وكل ما نريده هو أن نعود إلى مدينتنا ويندحر المسلحون الذين احتلوا منازلنا وأرزاقنا وقتلوا أهلنا وشردونا».