يوم سقوط المبنى
تخطئ المذيعة بالخبر وتقول: «قصف مبنى في الأشرفية»! صُدمت لوهلة. أكيد الخبر خاطئ، قصفٌ، وفي الأشرفية؟ لو كان المبنى في الجنوب أو ضاحية بيروت الجنوبية لصدّقت من دون عناء! تعيد المذيعة الخبر بعد تصحيحه من دون أن تعتذر للمشاهد الذي ـــــ لا شك ـــــ صُعق، مثلي على الأقل، فتقول: «انهيار مبنى في الأشرفية». ما زال الخبر يصدمني. أنظر إلى الجدران المتشققة في غرفة الجلوس، وأنا أسكن في الطبقة الثامنة، أُفكر «إذا انهار هذا المبنى، فمن يموت أولاً؟ نحن سكان الطبقة الأخيرة، أم سكان الطبقة الأولى؟!».
تأتي حصيلة الضحايا بعد يومين من «النكش» و«البحش» و«التنبيش». المحصلة النهائية للقتلى هي 11 لبنانياً و16 أجنبياً ولا مفقودين، وتقول التقارير إن معظم سكان المبنى المُنهار هم من الأجانب، يعني في معادلات الدولة اللبنانية «أيّ كلام، مش شي مهم»! أكثر من خمسين سنة انهارت في أقل من خمسة دقائق، ويأتي تعويض الأرواح بثلاثين مليون ليرة لبنانية من الحكومة، فعلاً «شو رخيص الإنسان»!. بعد يومين من الحادثة نزلت إلى مخيم شاتيلا. لست أبالغ إن قُلت إن كل «شبه بناية» تُروى قصصاً عمرها أكثر من ستين عاماً، هي في معظمها مبانٍ قابلة للانهيار، ومع ذلك ما زالت صامدة. حرب المخيمات لم تؤثر بها، ولا القصف العنيف على المخيم أحبط من عزيمة أهلها في البقاء. أهي حكمة ربانية؟ لست أدري، ربما الله يعرف أن هؤلاء ليس لهم مكان بعد إلا في هذا المخيم، فأبقاه على حاله، لم يؤثر فيه شيء! مررت بجانب أحد مكاتب التنظيمات، رأيت إشعاراً قديماً وضعوه على المبنى المقابل، يقول: «تحذير، هذا المبنى قابل للانهيار»، ومع ذلك لا تزال النسوّة ينشرن غسيل أولادهنّ على السطوح؛ فالمبنى بالطبع مأهول! وغيره من المباني التي تزيد في طبقاتها عُلواً، رغم تحذيرات الأونروا من أن أساساتها لا يزيد حملها على الطبقتين أو الثلاث في حدٍّ أقصى. أنا لا ألوم هؤلاء في بقائهم، ولا ألوم سكان مبنى الأشرفية على بقائهم أيضاً، هؤلاء وأولئك وحدة حال، ولو اختلفت الأمكنة والأزمنة، فالفقر يجمعهم! من يبالي إن كان السقف الذي يؤويه متشققاً، أو إن كانت الرطوبة تخنق النَفس؟ أوليس المهم أن تجد مكاناً يؤويك؟
ليس ذنب الناس ما حصل في الأشرفية، وليس ذنب سكان المخيم حال بيوتهم. إنها لعبةٌ أكبر من الناس. أحد أقاربي عاش عشر سنين في بيتٍ سقفه عبارة عن ألواح زينكو. لم يكن أحدٌ يبالي، حتى بنى سقفاً من باطون ليحمي أولاده من برد الشتاء، ولا يزال الكل لا يبالي!
بيروت ــ إيمان بشير

كله قابل للسقوط...

في مخيم بلاطة كانت لدينا غرفتان، والثالثة جديدة. ولشدة قدمها كانت القضبان الحديدية التي «تسلح» خرسانة السقف مكشوفة ومصابة بالصدأ حتى النخاع. أما الغرف، فلو قفز فيها أربعة راشدين، لسقطت على من فيها. إلا أن ما فيها اليوم هو كراكيب متراكمة على مدى 60 عاماً أو أكثر. عمارة كبيرة مؤلفة من أكثر من 20 طبقة في الإسكندرية، هي أيضاً آيلة للسقوط وسط سوق كبير. حتى إذا وقعت، يعتذر المشير أو تعوّض الحكومة المصرية على الأغلب، كما حدث في عمارة الأشرفية. في المدينة ذاتها، الإسكندرية، هناك حي كامل قد «ريّح»، أو بمعنى آخر مبانيه قد مالت ميلاً غريباً أكثر من حظ اللاجئين. والسبب؟ أن أحد المهووسين بالبحث عن كنز الإسكندر المقدوني قد حلم بشيخ يرتدي الأبيض يأمره بالحفر حتى يجد الكنز! وبالفعل حفر نفقاً تحت البيوت. وكان كل مساء «يضرب» حبتي برشام «الكبتاغون» أو «السبيد» المنشط ويبدأ الحفر، حتى مالت الحارة كاملة. وتبين في ما بعد أن حبوب هلوسة التي تعاطاها الباحث عن كنز الإسكندر قد أنتجت في مخيلته هذا الشيخ الذي خرب بيت حي شعبي كامل في الإسكندرية. مهما كانت الأسباب: رداءة البناء، غش المقاول في كميات الإسمنت والحديد أو حتى وجود شيخ يرتدي الأبيض، إلا أن المخيمات تختلف اختلافاً عن الأشرفية والإسكندرية وباقي المدن والتجمعات. الخيام التي لم تهتم قط بسقوط شيء آخر غير سقوط الأمطار والثلوج غير آيلة للانهيار. وعندما تطورت هذه الخيام وأصبحت بيوتاً صغيرة هنا وهناك بقيت قابلة للصمود أكثر من الانهيار. ربما أشفقت الجدران على حال اللاجئين، وربما اكتسبت صلابة من ساكنيها. ربما يوماً ما ستترك هذه البيوت فارغة، بعودة ساكنيها إلى بلادهم وبيوتهم القديمة منذ فجر التاريخ، من يدري؟ ربما!!
الأردن ـــــ معاذ عابد