كان النظام السوري واقعياً أمس. لم يعلن أن 99.9 في المئة من السوريين قد شاركوا في الاستفتاء على الدستور. هم 57.4 في المئة فقط. مع إعلان وزير الداخلية محمد الشعار هذه النسبة، في مؤتمر صحافي داخل وزارته، سادت الدهشة بين الحاضرين. خلال الأيام الماضية، كان يدور نقاش بين الإعلاميين والمتابعين حول النسبة التي سوف يعلنها النظام السوري.
منهم من كان يتوقع أن تكون النسبة «ساحقة ماحقة»، على غرار الاستحقاقات الماضية، ومنهم من كان يأمل من النظام «واقعية» في هذه المرحلة. هكذا، فاز أصحاب الاتجاه الواقعي.
قبل اعتلاء الشعار منبره لإعلان النتائج المنتظرة، أبدى عدد من الإعلاميين الأجانب انزعاجاً من الانتظار «المجاني». كان المعنيون قد أخبروهم أن المؤتمر الصحافي سيكون عند الساعة الثانية ظهراً، لكن «مشاغل طرأت على الوزير» جعلته يتأخر ساعتين ونصف الساعة تقريباً. أحد الحاضرين حاول التماس العذر للوزير، بفكاهة لا تخلو من خبث، قائلاً: «اعذروه، فلعله لم يعتد استحقاقات كهذه بعد». على كل حال، وصل الوزير واعتذر من الجميع.
على هامش المؤتمر الصحافي، دار نقاش بين بعض الحاضرين، بشأن النسب التي أعلنها وزير الداخلية. أحدهم حاول أن يسخر من نسبة المشاركة، التي في رأيه جاءت متدنية جداً. لكن، ما هي إلا دقائق، حتى تدخل آخر ليخبره بأن معلوماته العامة السياسية «بسيطة جداً». المتدخّل بدا أنه من المتحمسين للنظام، فتكفّل بالرد على الجالس قربه بلغة الأرقام. ذكرّه بأن أرقى الديموقراطيات في العالم لا يشارك في استفتاءاتها، عادةً، أكثر من 70 في المئة. ولأن الشيء بالشيء يكون، قرر «محبّ الأسد» أن يسخر من الساخر الأول، فاختار له نموذج مصر، الدولة «الغارقة في الربيع العربي»، قائلاً له: «يا صديقي الثائر، إن نسبة المشاركة هناك، في انتخابات مجلس الشعب المصري، لم تتعدى 60 في المئة. ولا تنسى الأجواء الأمنية الممتازة التي كانت هناك، مقارنةً بالوضع السوري، إضافة إلى الدعم الدولي والعربي الشامل». لم يقتنع الإعلامي الساخر بهذه المقارنات، وأصرّ على أن عدم مشاركة أكثر من 42 في المئة من الشعب في الاستفتاء هي مسألة «لا يمكن تجاوزها وعلى النظام أن يفهمها جيداً». هكذا، لا أحد في سوريا، هذه الأيام، قادر على إقناع أحد بأي فكرة. الكل بات متخندقاً.
كان لافتاً أن مراسلة تلفزيون «الدنيا» السوري، وغيرها من وسائل الإعلام السورية، كانت تطرح أسئلة محرجة، نوعاً ما، للنظام. مثل سبب عدم شمول الاستفتاء للسوريين المقيمين خارج سوريا، وعدم اعتماد الحبر، المعتمد في كثير من دول العالم، في إجراء البصم بعد وضع الورقة في الصندوق.
انتهى المؤتمر، وغادر الإعلاميون إلى خارج وزارة الداخلية. هذه الوزارة التي بدت، أمس، كثكنة. رجال الحرس من الجيش كانوا يضعون الخوذ على رؤوسهم، فظهروا بشكل غير مألوف. خارج وزارة الداخلية المطلة مباشرة على جبل قاسيون، يجتمع 4 عسكريين من الجيش السوري. بنادقهم لا تفارق أكتافهم إطلاقاً، واليد ثابتة على الزناد. أحدهم يحب الشعب اللبناني كثيراً. قبل أن يفتح قلبه، يسأل: «من أين أنت من لبنان»؟ هكذا، يبدو أن هذا السؤال المناطقي الذي لا تخفى خلفيته الطائفية لبنانياً قد أصبح مألوفاً أيضاً في سوريا. العسكري، ابن إحدى المناطق في حمص، لكن البعيدة عن بابا عمرو، لديه أمنية في حياته. «أتمنى أن أقابل، مجرد مقابلة، السيد حسن نصر الله. أمانة أوصلوا سلامي إليه وإلى كل رجال المقاومة». يلتفت العسكري، الثلاثيني، إلى رفاقه الثلاثة، قائلاً: «الأول من حماة، والثاني من حلب، والثالث من الشام، وأنا حمص، ونعيش بعضنا مع بعض أكثر مما نعيش مع أهلنا. صدقني لا طائفية في نفوسنا، ولكنها، للأسف، سحابة تمر فوق سوريا لا أكثر». يصل رفيقه ويدخل على خط الحديث. يفضّل التكلم في «النسوان» بدل السياسة. «شفت إعلاميات روسيات، أحلى من هـ«الروسية» يلّي حاملها (يقصد بندقية الكلاشنيكوف). ديروا بالكن عليهن أمانة».
تمر في الشارع حافلة نقل عمومية، على زجاجها الخلفي صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد، وإلى جانبه السيد حسن نصر الله. ينتبه العسكري ابن حمص إلى الصورة، فيقول: «شفت الله شو بحبني، عرفني حكيت عن السيد فخلاني شوف صورتو هلق. الله يرزقني شوفتو عن قرب».
هكذا، خرجت سوريا رسمياً، أمس، من زمن حكم الحزب الواحد. لقد بات لدى الشعب السوري، دستورياً، تعددية سياسية ومساواة. في الشام، لم يكن الناس، أمس، مختلفين عمّا كانوا عليه أول من أمس. كل شيء كان عادياً. حركة المرور وزحمة الناس، في سوق الحميدية والبرامكة وسائر الأحياء، كانت هي هي. بائع المشروبات الشامية، المبتسم دائماً في السوق الشعبي، لم يشارك في الاستفتاء. هو ليس معارضاً في المناسبة، ولكنه لم يشارك، وقد بدا محقّاً بأن لا سبب منعه من ذلك. هو مواطن سوري تقليدي... «على باب الله». يريد كسب قوت يومه، لا أكثر، وهو لم يكن يعلم أن بلده قد شهد أول من أمس استفتاءً على الدستور. سمع عن ذلك فقط، فالأمر لا يعنيه كثيراً. كل ما يريده أن «يبقى البلد بخير... والله يحميلنا الرئيس».
سائق أجرة، بين أحياء الشام، لا يتكلم كثيراً. تسأله عن رأيه في الدستور الجديد، فيجيب «الحمد لله كله خير». ماذا وأين وكيف ولماذا... كلها أسئلة لها منه تعليق واحد... «كله خير». سائق آخر تكلم. تكلم إلى حدّ بات صعباً إسكاته. «أنا متفائل بالخير، وإن شاء الله رح تخلص كل هالأزمة. بلدنا حلو وكان ينضرب فيه المثل بالأمن والأمان، وأنا واثق إنو الرئيس بشار رح يحلها».
سيدة أخرى تسألها عن رأيها، فتشكو من مشاكل مادية، ولكن تكمل «بس يعني بدك تقنعني إنو العرعور هو يلّي بدو يحل مشاكلي المادية؟ يعني بدك تقلي إنو برهان غليون هو يلي بدو يعمل سوريا جنة الله على الأرض؟ يا سيدي هول تجّار. والتاجر جبان، وبعمرك ما تعوّل على جبان». هكذا، بين من يتكلم ولا يسكت، ومن يفضّل التزام الصمت، تعيش الشام زخمها المعتاد، وكأن لا شيء يحصل في سوريا.