أنا فلسطيني، أنا سياسي، إذاً أنا موجود
«إذا دخلت إلى حرم المدينة الجامعية بعد منتصف الليل، ورأيت أضواء غرف الطلاب مطفأة إلّا غرفة واحدة مضاءة، فتأكد أن هناك احتمالين لا ثالث لهما، الأول أنّ أحد الكوبيين يستمتع بتدخين سيجاره الكوبي، أو أن ثلّة من الفلسطينيين يتناقشون في السياسة»، كانت هذه المقولة «دارجة» في سنوات الدراسة الجامعية. واحدة من أمور كثيرة تجعل من الفلسطيني صاحب ميزة نادرة الوجود عن باقي أمم وشعوب الأرض، ميزة مرتبطة بثنائي إن توافر أحدهما أو كلاهما يمكنك أن تكون سياسياً. أولهما أن تكون فلسطينياً، والثاني أن تكون من ضحايا النكبة. من رحم هذا الثنائي خرج المخيم، المخيم الذي يقول عنه الصديق حسان حسان «أجمل مكان في العالم»، وإن كان لحسان ما يبرر قوله هذا من ذكريات على «سوكة الحارة» في المخيم، ومشاكسات الصبا بين مكاتب «الفصائل» سيكون للثانية وقع آخر عند أهالي المخيمات، فإذا كان «الكف» الذي صفعني إياه أبي لأني ترددت إلى مكتب الفصيل الفلاني قد آلمني، فإن عمي ابن «مكتب» الفصيل الآخر، قد مسح عن خدي هذا «الكف» بصفعة أخرى لأنني ذهبت إلى مكتب الفصيل الآخر الذي لا يحب، وفي ذلك الصبا كلما صفعني أبي «كفاً» على خدي الأيمن أدرت لعمي الخد الأيسر، حتى «تورمت» وأصبحت «ضليعا» في السياسة، السياسة التي أنا ضليع بها كما أدعي اليوم فقط لأنني أكاديمي وحسب، اكتشفت أنها ميزة يملكها الفلسطينيون على وجه العموم. لماذا؟ إنه السؤال الأهم، والجواب هو أن وجود اللاجئين الفلسطينيين في دول اللجوء هو وجود بقرار «سياسي» من الدول المضيفة، ولو كان غير ذلك لما تغيرت القوانين الناظمة لوجودهم بين يوم وليلة بقرار «سياسي» بين أن يتملك الفلسطيني في لبنان أو لا يتملك على سبيل المثال لا الحصر، وبالتالي فإن الفلسطيني مجبر على أن يتابع القوانين «السياسية» الناظمة لأن يكون أو لا يكون ... أي لوجوده. وعليه أيضاً ــ أي الفلسطيني ــ أن يكون على دراية بأي أرض سيبيت ليلته، ففي كل ثانية يخرج صهيوني من أرض «إسرائيل» المزعومة ليقترح خيمة لمن تبقى من الفلسطينيين فوق أرضهم فيوماً ما سيقيم لهم «غيتوات» منفصلة عن «اليهود» الوافدين ويوماً آخر سينقلهم إلى الوطن البديل لهم ولأشقائهم المهجّرين تحت وطأة النكبة لأن «سياسة» الكيان الصهيوني تجبرهم على القلق الوجودي، ويجبره الفلسطينيون كل يوم على أن يقبل حقيقة أنهم باقون ليس بقرار «سياسي» بل لأنهم وعد من رحلوا. وبين هاتين السياستين المثاليتين ليس إلّا، أشاغل باب مخيمي وألاهيه، لأدخل من نافذة «الفصائل». وأي نافذة هذه التي تكاد تكون أوسع أبواب المخيم لولا «السياسة». في ثقافات الشعوب على اختلاف أنماطها عندما يسألك أحدهم «إنت إبن مين؟». يعني هذا السؤال من هو والدك ليتعرف إلى كنيتك وعائلتك وما تليها من أصول عرقك. أما في المخيم فلهذا السؤال معنيان: الأول «من هو أبوك؟» والثاني «ابن أي فصيل إنت؟». فقد اعتدنا بعد أن نعرّف أنفسنا للآخرين في المخيمات أن نقول أنا ابن فلان، وقد لا يعرف أبوك أحدهم فتقول له أنا ابن «الفصيل» الفلاني فستتبع سائلك من يتبقى ابتداء بقائد الفصيل الفذ إلى «بواب» المكتب وما بينهما، ولأن هذه الفصائل جزء من تكويننا النفسي، فإن حياتك الاجتماعية أضحت حمّالة أوجه، وفقاً لما يتبناه فصيلك من سياسات. وتعمل الضرورة عملها هنا فتجبرك على أن تعرف «سياسته» وأن تتحدث بـ«سياسته»، وإذا لم يقنعك فصيلك أو سواه فعليك أن تتحدث وتنقد وتنقض «سياستهم» ، ومن ثم فإنك كفلسطيني إن لم تعلن انتماءك إلى فصيل فإنك حكماً تؤيد فصيلاً ما، وعليك أن تعلم ما هي سياسته لتقضي قضاء مبرماً على من يخالفونك الرأي في سهرة من السهرات متحلقاً وأبناء مخيمك حول تنكة النار التي توقد خلال ليالي السمر في الشارع. ومن كان يتخيل أن يكون للسياسة دور في الزواج؟ عندما ذهبت لأطلب يد من هي زوجتي اليوم، وجهت إلي «العروس» ألف تحذير، من أن أشتم «السياسي» فلان الفلاني، لأن عمي أو حميّ يحبه. ولم أستطع إلا أن أعلن كرهي لمن يحبه عمي، والحمد لله أنه كان كبير العقل ولم يقف كثيراً عند كرهي المبرر «سياسياً» ويمنع زواجي ممن أحب.
إذا كانت السياسة حاضرة في كل تفاصيل حياة الفلسطيني عموماً واللاجئ خصوصاً ابتداءً من قلقه الوجودي وصولاً إلى شريكة حياته، مروراً بالمكاتب الفصائلية التي تلاصق منزله في المخيم والسهرات التي لا تخلو من الحديث عن القضية، فمن الطبيعي أن يكون هذا الفلسطيني متابعاً شرساً للسياسة وشؤونها بل ومحافظاً على استمرارية تطوير نفسه بكل ما يؤيد وجهة نظره في شأن وجوده وزواجه، وبالتالي فمن البديهي أنك إذا دخلت حرم المدينة الجامعية ووجدت أضواءها جميعاً مطفأة إلّا واحداً فسيكون أمامك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون فيها فلسطيني أو أكثر يتحدثون «بالسياسة» أو كوبيون يلهيهم فلسطيني بالسياسة عن الاستمتاع بسجائرهم، فالسياسة هي القوت اليومي للفلسطيني وهي أهم من سيجار الكوبيين ولو في حضرتهم.
مخيم اليرموك - نضال بيطاري