احتفلت سلطات إقليم كردستان العراق، قبل بضعة أيام، بالذكرى الـ66 لإعلان قيام «جمهورية كردستان الديموقراطية وعاصمتها مهاباد»، والتي تُسمَّى اختصاراً «جمهورية مهاباد» التي تأسست في شباط 1946. احتفال مركزي استضافته عاصمة الإقليم، أربيل، حيث ألقى الرئيس مسعود البرزاني خطاباً طويلاً في المناسبة. مراقبون مستقلّون رأوا أن الخطاب كان دقيقاً ومتوازناً وجديداً في بعض مفاصله، إذ إنه لم يغفل المبادئ الأساسية التي قاتلت من أجلها حركة التحرر الكردية طوال عقود من القرن الماضي من جهة، ومن جهة لم يستفز الطرف المقابل، العربي العراقي، بطرح شعارات متشنّجة ومباشِرة كالدعوة إلى إعلان الاستقلال التام والانفصال الفوري.
عملياً، يتمتّع الإقليم الكردي العراقي حالياً، منذ عام 1991، بكل ما تتمتع به الدولة المستقلة تقريباً، وقد ضمنت الزعامة الكردية لنفسها حصة من الموازنة الاتحادية تفوق نسبتها السكانية بكثير، وتقدر بـ17 في المئة، على قاعدة أن إحصاءً دقيقاً للسكان لم يُجْرَ حتى الآن. كذلك يخلو الإقليم من أيّ حضور أمني أو عسكري اتحادي، وقد حصلت عدة تشنجات واحتكاكات عسكرية بين قوات الإقليم المؤلفة من ميليشيات «البيشمركة» والجيش العراقي في المناطق المخْتَلَف على تبعيّتها الإدارية. أما المناطق الواقعة تحت حكم الإقليم، فهي خالية تماماً من الوجود العسكري والأمني العراقي الاتحادي.
وفي خطابه، أثار البرزاني عدة أمور مهمة، منها ما يُثار للمرة الأولى، كتأكيده أن «الوقت أصبح مناسباً لممارسة عملية تقرير المصير بالنسبة إلى الأكراد»، مع الإشارة إلى أن المنطقة «تشهد تحوُّلات سريعة ويجب الاستعداد لها». وشدّد على أن «حقوق الأكراد لا تُمنح من أحد، بل تنبع من خلال الاعتراف بها». وقد توقف محللون عند إشارة البرزاني إلى أن حقَّ تقرير المصير حق «إلهي المصدر»، حين قال حرفياً إنّ «ذلك الحق منحنا إيّاه الله، وعلينا أنْ نعرف كيف نمارس هذا الحق ونتصرّف به بحكمة»، مشيراً إلى أن «لكل جزء من كردستان خصوصية تستدعي التعامل معه وفقاً لحساسيته». بعض المحللين حاولوا الربط بين «تقديس» حق تقرير المصير الكردي واعتباره «منحة إلهية»، وبين ما دأب عليه الخطاب الصهيوني من تكرارٍ مُملٍّ للوعود التوراتية التي يزعمون أن الله منحهم بموجبها أرض فلسطين. محلّلون آخرون رفضوا هذا الربط، ونظروا إليه على أنه غير واقعي وقسري ويحكم على النيّات لا على الحقائق والوقائع، مشدّدين على عفوية وبساطة الكلمات التي أدلى بها البرزاني، والتي «ليس من الصائب تحميلها أكثر مما تحتمل».
فكرة أخرى اعتبرها المحلِّلون مهمّة وردت في الخطاب، رأى البرزاني فيها أنّ القضية الكردية «قومية كانت ولا تزال، وليست مشكلة دينية، لم تكن كذلك قبل الآن ولا هي الآن»، لافتاً إلى أن «رجال الدين الأكراد كانوا هم المنادين بالحقوق القومية، وكانوا قادة الثورات في ما مضى». ورغم أن البرزاني في الجزء الأول من هذه الفكرة يَفْصُل بين ما هو قومي وما هو ديني، يعود ليربط بينهما ربطاً عملياً في جزئها الثاني. وقد رجّح بعض المحللين أن يكون دافع البرزاني في التطرق إلى موضوع العلاقة بين العاملين القومي والديني، ما تشهده الساحة الكردية من بروز وتعاظم لدور الأحزاب والحركات الإسلامية التي يعتقد البعض أنها باتت تهدّد انتخابياً السلطة في الإقليم، وهي المؤلفة من تحالف حزبَي البرزاني والرئيس جلال الطالباني، «الديموقراطي الكردستاني»، و«الاتحاد الوطني الكردستاني»، وهو التحالف الذي بدأت الشقوق تظهر عليه، وخصوصاً بعدما قرر حزب البرزاني خوض الانتخابات المحلية المقبلة منفرداً. وكانت «جمهورية كردستان الديموقراطية»، وعاصمتها مهاباد، شمال غرب إيران، قد أعلنت استقلالها في 22 كانون الأول 1946، بقيادة رجل الدين الكردي القاضي محمد، وبدعم سوفياتي مباشر وكبير، وبمشاركة فعالة من قبل الأكراد العراقيين الذين قاد المئات منهم الزعيم الكردي التاريخي ملا مصطفى البرزاني. وبعدما أوقف السوفيات دعمهم للجمهورية الكردية الفتية، اكتسحتها قوات الشاه الإيراني وحطّمتها بقوة السلاح، وأعدمت قادتها في 31 آذار 1947، أي بعد 11 شهراً فقط على قيامها.
ومن القضايا الجديدة التي أثارها البرزاني في خطابه أيضاً، قضية الخلافات التي قيل عنها الكثير، بين قطبي الحركة القومية الكردية التحررية، البرزاني الأب، ورئيس جمهورية كردستان الديموقراطية القاضي محمد، والتي تطرق إليها البرزاني الابن للمرة الأولى، فوصفها بـ«الدسيسة» التي يقوم بها «خونة ومرتزقة يحاولون تشويه التاريخ». وقال عن هذا الموضوع «كثيراً ما كنتُ أسمع القائد الخالد مصطفى البرزاني ورفاقه يقولون إن الشيخ الراحل أحمد البرزاني، يوم قرر مع مصطفى البرزاني ورفاقه التوجه إلى كردستان الشرقية في إيران عام 1945، فقد لقوا استقبالاً أخوياً في كل المدن والبلدان والقرى. وأكثر من ذلك، فإنّ هؤلاء الإخوة قد تقاسموا سكنهم ورزقهم، ولا سيَّما في مدينة مهاباد، مع إخوتهم البرزانيين، حيث اصطحب البرزاني مصطفى قلة من قادة العشائر المعارضين لهذا التقارب، وذلك للقاء القاضي محمد وخاطب الجميع: هذه فرصة تاريخية تهيّأت للأكراد والزعيم هو قائدنا جميعاً، وأنا الجندي الأول لهذه الجمهورية (جمهورية كوردستان الديموقراطية في مهاباد)».
واعْتُبِرَ احتفال هذا العام الأكبر حتى الآن، وقد حضرته وفود من أكراد إيران وسوريا، وعدد من النواب الأكراد الأتراك، إضافة إلى المسؤولين المحليين في الإقليم، كرئيس الوزراء لتصريف الأعمال برهم صالح، فيما لم يُسجَّل حضور رئيس الجمهورية جلال الطالباني أو أي مسؤول اتحادي كبير.
وسائل الإعلام العراقية المحلية اكتفت بنشر الخبر من دون الإدلاء بالمزيد من التعليقات، على قاعدة أن الكلام على حق تقرير المصير الكردي يثير تحفظات قوية لدى القوميين وعدد كبير من الوطنيين العراقيين العرب. أما أصدقاء الأكراد والقضية الكردية في العراق العربي، فقد انحسر دورهم كثيراً لعدة أسباب، منها ضمور دور التيارات العلمانية والحداثية اليسارية في عموم العراق، وأيضاً بسبب «الأصدقاء الجدُد» الذين مدَّت بعض القيادات الكردية أيديها إليهم، ومنهم أصدقاء إسرائيل ممّن تقاطروا إلى كردستان خلال الفترة الماضية، إضافة إلى ما يُقال عن علاقات تعاون وتنسيق بين زعامات كردية وإسرائيل، الأمر الذي يرفضه أصدقاء الأكراد من العراقيين العرب ويشعرون بالحرج من أن يكونوا في الخندق ذاته الذي يقف فيه أصدقاء دولة الاحتلال «رغم عدالة وإنسانية هدف حق تقرير المصير للأمة الكردية».
محلّلون كثُر اعتبروا هذه التطورات، قبل الاحتفال بذكرى جمهورية مهاباد وبعده، إشارات قوية على عودة القضية الكردية لتأخذ مكانها في خريطة الشرق الأوسط، كقضية تحرُّر وطني واستقلال قومي في الدرجة الأولى. وقد تزامن الاحتفال المذكور مع حدث سياسي كردي وجده بعض المحللين مثيراً للاهتمام، ألا وهو قيام رئيس برلمان إقليم كردستان العراق أرسلان باييز بإزالة صورة الملا مصطفى البرزاني من مكتبه في البرلمان الإقليمي، ووضع صورتَي مسعود البرزاني وجلال الطالباني بدلاً منها. خطوة أثارت حفيظة محازبي «الديموقراطي الكردستاني» (المعروف بـ البارتي) الذي يتزعمه البرزاني. لكن باييز برّر «تبديل مكان الصورة بأسباب بروتوكولية بحتة». غير أن هذا التوضيح لم يمنع بعض الكتّاب من مهاجمة القرار، إذ كتب قيس قره داغي مقالاً حاداً في مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان «يا رئيس البرلمان الكردستاني الجديد، أما ملَّت أكتافكم من حمل أثقال الغدر؟»، منتقداً بعنف هذا الإجراء ومن يقف وراءه. وفي السياق، نقلت إحدى وكالات الإعلام الكردية خبراً يفيد بأن عدداً من أفراد أسرة البرزاني استنكروا خطوة رئيس برلمان الإقليم، ولاموه عليها بشدة. البعض الآخر من متدخّلين ومعلّقين حبَّذوا الإجراء الذي أقدم عليه رئيس برلمان الإقليم، فدوَّن أحدهم ما حرفيّته أن «ما فعله‌ رئيس البرلمان هو الصحيح، فمن المعروف في العالم كلِّه أن صورة رئيس الدولة هي التي تُرفع دون سواها. إنّ الملا مصطفى يعيش في قلوب محبّيه‌، وهذا لا يُنكَر، لكن لا يوجد أي مسوِّغ قانوني لفرض صورته‌ على الجميع».



مشروع دستور كردي بـ7 أقاليم لتركيا


بعد أيام على الاحتفال بذكرى «جمهورية كردستان الديموقراطية وعاصمتها مهاباد»، سُجِّل تطوّر صبَّ في مصلحة تقدم القضية الكردية لكن في كردستان الشمالية، أي في تركيا، إذ اجتمعت بلديات مدن غرب الأناضول ذات الغالبية الكردية، وقررت أن تقترح على الدولة التركية دستوراً جديداً يتضمن تقسيم تركيا إلى ستة أو سبعة أقاليم اتحادية، يُسمَّى أحدها إقليم «كردستان». رئيس اتحاد بلديات غرب الأناضول، عثمان بايدمير، وهو في الوقت نفسه رئيس بلدية «عاصمة الأكراد»، أي مدينة ديار بكر، أكد أن «مسوّدة الدستور الجديد تتضمّن مطالبنا بإنشاء الأقاليم، وإبقاء اللغة التركية لغة البلاد الرسمية»، مستدركاً بأن «برلمان الإقليم الكردستاني سيعتمد، فضلاً عن اللغة التركية، اللغات الكردية والعربية والسريانية التي يتداولها سكان المنطقة، لغات رسمية فيه».