الخرطوم | لم يكن غريباً أن يعود مشهد ذلك الشيخ السبعيني، بسمته المعروف لدى مرتادي «السوق العربي» وسط الخرطوم، وهو يتجوّل في الأسواق والشوارع بلحيته البيضاء الكثّة و«عُصابته الحمراء» والسوط الذي يحمله ويضرب به كل من يقابله، وخصوصاً النساء والبنات اللاتي يصفهن بالمتبرجات والسافرات. مشهد الشيخ، الذي يرتدي زياً عسكرياً قديماً كغيره من أفراد قوات الدفاع الشعبي، عاد أخيراً إلى الظهور، متزامناً مع ما أعلنه الرئيس عمر البشير بداية هذا الاسبوع، من نفخ الروح في جسد الدفاع الشعبي.
وبإصدار البشير توجيهاته بفتح معسكرات الدفاع الشعبي في العاصمة والولايات، عادت إلى أذهان الآلاف من أبناء الشعب السوداني صورة حكومة الانقاذ في نسختها الأولى ما قبل التوقيع على اتفاقية نيفاشا، حيث كانت هذه القوات تشكّل القوة المنظمة التي تحمي الحكومة وتحتمي بالسلطة. وانخرطت وقتذاك في قوات الدفاع الشعبي أعداد كبيرة من المواطنين، كانت غالبيتهم من منسوبي المؤسسات الحكومية وطلاب الجامعات، تم تجنيدهم اجبارياً، في مقابل انخراط قطاع عريض من انصار النظام ومؤيديه طواعية في تلك القوات التي قاتلت في «حرب الجنوب» الطويلة، مستفيدين من الدعم اللوجستي والمادي الذي كانت تمنحه لهم الحكومة حتى كادت تلك القوات الموازية أن تحل مكان قوات الجيش النظامية. إلا أن أسهم تلك القوات خبت تماماً عقب توقيع الحكومة والحركة الشعبية لاتفاقية السلام الشامل في نيفاشا في العام 2005، والتي وضعت حداً للحرب بين شمال السودان وجنوبه. ولا تزال الذاكرة الجنوبية تحتفظ بمشاهد سوداء من العملية الجهادية التي أطلقتها «جبهة الانقاذ»، حينما حولت الحرب مع الجنوب الى حرب دينية مستخدمة فيها أفراد الدفاع الشعبي، الذين باتوا على موعد مع دورٍ جديد بعد إعلان البشير. واقع الأمر، أن اعلان الرئيس السوداني لم يكن وليد اللحظة؛ فمعظم تصريحات البشير وأركان حربه طوال الفترة الماضية، كانت تتحدث عن الحرب، صراحةً أو تلميحاً. وساهمت الخلافات المتواصلة بين السودان وجارته الوليدة، وخصوصاً في ما يتعلق بالخلاف حول النفط، ومن قبله الصراع الدائر في جنوب كردفان والنيل الأزرق، في توتير الأجواء وشحنها بالعداءات، ليكون تفجرها في أي وقت أمراً متوقعاً.
أما الشارع العام فاستقبل دعوة البشير بمشاعر متباينة، ما بين عدم المبالاة بدعوة الرئيس من الاساس باعتبار أن ما تعانيه غالبية المواطنين من ضغوط معيشية غير مسبوقة، لا يترك لهم سبيلاً للتفكير في أي شيء آخر، وبين آخرين سيطر عليهم الشعور بالخوف مما بثّه حديث الرئيس، وما يمكن أن تخبّئه لهم الأيام. ويرى ايهاب عبد الله صعوبة فتح معسكرات للتدريب في ظل الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الحكومة، لافتاً إلى أنه حتى لو تم فتح بعضها فإنها لن تمتلئ بالمتطوعين كما كان يحدث في السابق. ويوضّح ايهاب وجهة نظره بأن «الناس غير قادرين على توفير لقمة العيش، فكيف يذهبون إلى المعسكرات».
من جهته، يقول حسام، الذي كان يشاركه الجلسة، لـ«الأخبار»، إن «الإنقاذ» «باعت الرجال زمان، لذا لن تجد الآن من يقف معها»، في اشارة منه كما يبدو إلى مفاصلة الاسلاميين الشهيرة، التي أطاحت النصف الآخر من الجبهة بعد عشرة أعوام من قيامها، وانتهت بهم إلى تكوين حزب معارض ــ المؤتمر الشعبي ـت بعدما كانوا يمثّلون عَصب الدفاع الشعبي و«عَضْمه». ولم يخفِ حسام تخوفه من المستقبل القريب، قائلاً إن هذا الأمر يعني أن الحكومة نفسها خائفة من مآلات الأمور.
أما حسن صالح فيُبدي دهشته البالغة من عودة الدفاع الشعبي. ويقول إن «الإنقاذ» تعود بذلك إلى ايامها الأولى، ما يعني أننا سنشهد تشدُّداً وتضييقاً في كثير من مناحي الحياة وليس في الجانب العسكري فقط. ولم يستبعد أن تتبع تلك الخطوة خطوة مشابهة في فتح معسكرات الخدمة الالزامية، وأخذ الناس من الشوارع عنوةً، في ما يُعرف بـ«الكَشَّات»، قبل أن يتساءل «ماذا جنينا اذاً من اتفاقية السلام، انفصل الجنوب ولم ننعم بالسلام وعاد الدفاع الشعبي مرة اخرى؟».
ويرى مراقبون سياسيون أن الخطوة تمثّل نكوصاً بائناً في مسيرة الإنقاذ. فبعد أكثر من عشرين عاماً تعود الحكومة إلى الاستعانة بالشعب للقتال إلى جانب قواتها الرسمية، وتساءلوا أين ذهبت القوة العسكرية للدولة، وخصوصاً بعدما وجهت أكثر من 70 في المئة من ميزانيتها العامة للإنفاق العسكري والأمني. ويتحدث المحللون عن صعوبة تطبيق فكرة فتح المعسكرات في ظل الضائقة الاقتصادية الطاحنة التي تعانيها الحكومة قبل الشعب، وذلك بعد انفصال الجنوب، وذهاب عائدات البترول الضخمة. بينما يراهن آخرون على تعاطف الكثيرين مع الحكومة، في ما يرون أنها مؤامرة تكيدها الحركة الشعبية، في حربها على أهلهم في النيل الأزرق وجنوب كردفان، ما يعني أن الكثيرين سينضمون إلى المعسكرات للدفاع عن أنفسهم قبل كل شيء. وهي فرضية تبقى رهن اقتناع الشعب السوداني بأن هناك ما يهدد أمنه واستقراره، لذا فإن الحكومة تسعى جاهدة الآن إلى خلق عدو جديد اسمه «تحالف كاودا». كذلك سعت أيضاً الى فتح معسكرات التدريب في الأحياء الشعبية حتى قبل إعلان البشير «الجهاد». ويحدد النصاب الذي يخوّل فتح معسكر للتدريب ما بين 50 و80 متدرباً. ووفقاً لإفادة تهاني محمد، وهي إحدى المدربات في المعسكرات النسائية، فإن الغالبية العظمى من المتطوعين داخل ميدان التدريب هم من فئة كبار السن. وتعزو تهاني، التي تعمل في هذه المهنة منذ العهد الأول للدفاع الشعبي، في حديث لـ«الأخبار» السبب الى أن الشباب والعاملين لا يجدون الوقت الكافي للانخراط في المعسكرات لارتباطهم إما بالدراسة أو بالعمل.