دمشق | منذ بدأ كلّ شيء في درعا منتصف آذار الماضي، ظلّت جميع التحليلات والتخمينات حول مصير نظام الرئيس بشار الأسد تنتهي عند تقاطع واحد: لن يسقط ما دامت حلب ودمشق معه، أو بكلام أكثر دقّة، ما دامت غرفتَا تجارة دمشق وحلب معه. عبارة تعني بشكل رئيسي أن النظام سيصمد إذا ظلّ التجّار والمستثمرون في العاصمتين السياسية والاقتصادية للبلاد، داعمين له ومموِّلين لماكينته المالية والاقتصادية والأمنية والبيروقراطية. ربما لذلك، أدرك المعسكر العربي والغربي المناهض لدمشق، أنه لا بدّ من الضرب على اليد التي توجِع النظام، أي تلك التي لا حياة للدول من دونها: السيولة.
من هنا، استهدفت جولات العقوبات الكثيرة، المصارف السورية وشركات محدَّدة وأسماء بارزة، مالية وتجارية خصوصاً، لم تقتصر على آل مخلوف، على اعتبار أنّ الهيكل لن يصمد حين يوقف التجّار أعمالهم، وحين يقرّرون دعم المعارضة، المدنية والعسكرية، وحين يتوقفون عن تمويل أجهزة النظام، الأمنية خصوصاً بـ«الإتاوات والخوّات».
وبالفعل، طال انتظار تحرُّك حلب، ورُبط التأخُّر فيها حزئياً بممانعة تجّارها وغرفتهم ورئيسها حسن زيدو، ورفضهم التخلّي عن النظام الذي كان يسارع إلى إرضائهم في كل مرة تصدر عنه قرارات متسرّعة تضرّ بهم، مثل «الفرمان» الذي صدر في أيلول الماضي، ونصّ في حينها على منع استيراد السلع التي تزيد الرسوم الجمركية المفروضة عليها على 5 في المئة، وهو القرار الذي لم يدم أكثر من أيام قبل إلغائه بعد الانذار الذي وجّهه «تجار حلب الأوفياء». وجاء اختراق الموقع الالكتروني لغرفة تجارة حلب، من قبل «اتحاد قراصنة سوريا الأحرار لدعم الثورة السورية» في آب الماضي، إشارة إلى مدى أهمية الموقع الذي يحتله التجار في العاصمة الاقتصادية لسوريا من ناحية صمود النظام.
في النهاية، رأس المال جبان. إنه قانون لا استثناء سورياً فيه، لذلك، مع اشتداد الأزمة واتساع رقعتها الجغرافية، راح المتموّلون والتجار والمستثمرون يقفلون استثماراتهم أو يقطّرون منها، إذ باتت أقل ربحية لا بل خاسرة بالنسبة لقطاعات كبيرة كشركات السفر والمصارف والشركات التي تنظّم المعارض ووكالات السياحة وأصحاب وكالات السيارات وشركات التصدير والاستيراد... إقفال وتقطير مردّه الأول يُفسَّر أساساً بالقانون الذهبي لعالم رأس المال والأعمال: الأمن والاستقرار هما الشرطان الأساسيان للبقاء. واليوم، بما أنه لا أمن ولا استقرار في عدد كبير من أرجاء البلاد وطرق مواصلاتها، فإنّ الاقفال أو التخفيف من حجم الأعمال والاستثمارات، كان الخيار الأضمن بالنسبة إلى عشرات الشركات كآل غريواتي (وكلاء شركات سيارات أساساً مثل كيا وفورد...) والحموي عمر كركور (صاحب وكالات سيارات أيضاً مثل أوبل وفولسفاغن وبورش...) ومحمود سمحا (وكالات ماركات كبينيتون وشانل...) وعصام العطار (صاحب وكالات استيراد ماركات معدات كهربائية كـ سوني...). أمثلة كثيرة يعدّدها متابعون لحركة التجار منذ انطلاق الانتفاضة، ويعترفون بأن هناك الكثير من الشائعات التي تلقى رواجاً في هذه الأيام في الأوساط الاعلامية والتجارية، كالكلام على نية أحد أبناء وزير سابق للدفاع التخفيف من استثماراته الكثيرة في شركاته ومجموعاته المالية في سوريا، لتصل بعض الروايات إلى التأكيد أن الشخص المذكور ينوي تأسيس حزب معارض قريباً إضافة إلى إطلاق وسائل إعلام معارضة، مع أن ثقة المعارضين به كأحد أركان النظام تاريخياً، لا تزال مفقودة. كذلك تنتشر روايات عن سعي أكبر متموِّل دمشقي، المعروف باستثماراته المتعددة، ومنها الاعلامية، لإقفال عدد من مشاريعه وتهريب أمواله، وهو ما يفسّر نقمة بعض أوساط الموالين على الرجل.
وتحمل الجلسات مع مديري تسويق في شركات تصدير واستيراد خلاصات عديدة؛ ينقسم التجار السوريون اليوم إلى عدة فئات؛ منهم مَن هو مستعدّ للذهاب حتى النهاية مع النظام، لأسباب مصلحية بحتة، بما أنّ مرحلة «الانفتاح» الاقتصادي في العقدين الماضيَين، أمّنت لهؤلاء المليارات السهلة من الأرباح والاحتكارات، بالتالي فإنّ هذه الفئة من المتموّلين الموالين ترى أنّ تغيُّر النظام سيقضي على مصالحهم، لكونه يُرجَّح أن تنتهي احتكاراتهم في حينها، وأن يتحوّلوا إلى مجرَّد متنافسين عاديين غير محظيّين في نظام اقتصادي ليبرالي «طبيعي»، هذا إذا اقتصر الضرر على هذا الحد، ولم يتحولوا إلى ضحايا سلوك انتقامي اقتصادي في ما بعد. فئة ثانية من التجار دعْمها للنظام منطلقه ارتباط سياسي او من منبع اقلوي او مذهبي، وهو ما يتجلى في الساحل خصوصاً، وهؤلاء أيضاً مستعدّون للذهاب «حتى النهاية» مع النظام، وهو ما يُعرَف عملياً اليوم بمواصلة تمويل هؤلاء لأجزاء من الأعباء المالية التي فُرضت على الدولة وأجهزتها، الأمنية تحديداً، في دمشق وحلب ومدن الساحل من طرطوس واللاذقية وبانياس... وهنا يتوقف المتابعون لهذا الشأن عند حادثة التاجر أيمن جابر، ابن اللاذقية، صاحب الاستثمارات، منها في قطاع تصنيع الحديد، وقد أُدرج اسمه هو وشركاته على لوائح العقوبات الأجنبية بتهمة تمويل «ميليشيات تابعة للنظام»، لذلك فإنّ تفادي تكرار تجربة جابر، بات الهم لدى كثيرين من زملائه في الوسط الاقتصادي. أما الفئة الأكثر عدداً بين التجّار الكبار والمتوسّطين والصغار من حيث حجم الأعمال، فهم هؤلاء الذين «وضعواً رِجلاً في كل معسكر، تحسُّباً لبقاء النظام أو لسقوطه»، بحسب مسؤول ميداني في إحدى الشركات المصنِّعة لمشتقات الحليب ووكيلة ماركات عالمية، تتركز أعمالها في ريف دمشق وفي قلب العاصمة أيضاً. ويُترجَم هذا السلوك اليوم بما يقال عنه «دفع التجار خوّات لأجهزة النظام، الرسمية منها وغير الرسمية، كذلك للمعارضين المتمثلين بميليشياتهم العسكرية في المناطق التي ينشطون فيها». ويجري ذلك «تحت طائلة المسؤولية، فمَن يدفع لطرف دون الآخر، معرَّض للخطر من الطرف الآخر، كأن يجد مؤسساته محروقة وسياراته مسروقة وموظفيه مختطفين، حتى عائلته لن تبقى آمنة». وفي هذا السياق، لا تزال حادثة وفاة المتموِّل الحلبي بسام العلبي ماثلة لليوم. وهو صاحب أكبر معمل نسيج في الشرق الأوسط، الذي احترق مصنعه «انتقاماً من دعمه النظام وميليشياته بالمال»، ما أدّى إلى إصابته بسكتة قلبية.
هكذا، فإنّ الالتزام من عدمه بـ«إضراب الكرامة»، الذي بدأ في كانون الأول الماضي بدعوة من جميع التنظيمات والهيئات والتنسيقيات المعارضة، بات القرار الأصعب بالنسبة إلى التجار والمؤسسات، إذ تحكمه معضلة كبيرة: الالتزام من عدمه محكوم بتأييد أو بمناهضة النظام، وبحسب الخوف من هوية الطرف الأقوى المسيطر على المنطقة، وبناءً على القدرة على الاقفال وتحمل التداعيات المالية...
باختصار، يشدّد كل من المعارضين والموالين على أنّ احتساب أعداد التجار الملتزمين وغير الملتزمين بالاضراب محكوم بعدة عوامل، وبالتالي ليس سهلاً معرفة شعبية النظام أو المعارضة بمجرد إحصاء عدد المؤسسات المقفلة أو العاملة. هكذا، يخبرك كثُر كيف أنه باتت ميزانية شركاتهم تتضمن مصاريف إضافية ضخمة، هي عبارة عن «ضريبة» أسبوعية أو شهرية تُدفَع للمعارضين أو للموالين، بسرية تامة لكي لا تتضرر سمعتهم بالنسبة للطرف الآخر، وأحياناً للطرفين معاً وفق هويّة الجهة التي تسيطر على المنطقة التي تقع فيها أعمال الشركة المعنية وفروعها، وذلك بحجّة تأمين الحماية لها من النهب والتدمير والقتل والسطو. جرائم طاولت بالفعل عشرات المؤسسات في مختلف المحافظات، وكل طرف يتهم الآخر بارتكابها انتقاماً من خياره الموالي أو المعارض، أو عقاباً له على خلفية دفعه «الإتاوات».
وبالحديث عن حلب، فإنّ مَن يحاول تقصّي بعض المعلومات حول وضع تجارها إزاء التطورات، يلاحظ تشديداً على فئة واسعة ممّن تضرّروا بنتيجة سوء العلاقة الحالية مع تركيا، بما أنّ تجّار حلب «هواهم تركي»، بمعنى أنّ مصالح عدد كبير منهم مرتبطة بالطرف الآخر من الحدود التي باتت شبه مقفلة أمام حركة الأفراد والبضائع، على خلفية العقوبات الاقتصادية المتبادلة بين سوريا وتركيا، وفرض الضرائب الباهظة، وخصوصاً من الطرف السوري على البضائع التركية الرخيصة التي غزت السوق السورية لسنوات، وضربت الصناعة المحلية بنحو كبير.
وعن الكلام الذي يفيد بأنّ التجار المتضررين من الكارثة الاقتصادية مع تركيا، قد فُتحَت أمامهم أبواب استيراد وتصدير لدول جديدة، كالعراق وايران وروسيا والصين، فإنّ عديدين يسجّلون أنّ المشكلة هنا تتجسد بأنّ التجارة مع سوريا ليست أولوية حالياً عند التجار الايرانيين والروس والصينيين طبعاً، وبدرجة أقل مع العراقيين الذين لا يزالون متردّدين في الانفتاح على زملائهم السوريين، ريثما تنجلي صورة الأحداث.
وهنا يتوقف المتابعون عند تفصيل مهم، وهو أنّ الصناعيين السوريين عموماً، الذين تضرّروا بسبب السياسات السورية التقاربية جداً مع تركيا طيلة الأعوام الماضية، وخصوصاً مع اتفاقيات التجارة الحرة التي فتحت السوق السورية أمام البضائع التركية التي تتمتع بقيمة مضافة كبيرة جعلت من الصناعة السورية غير قادرة على منافستها، يسعون حالياً إلى تعويض خسائرهم السابقة بإعادة الاعتبار إلى سلعهم المحلية الصنع، وجزء من هذه الفئة، في حلب وفي مختلف المحافظات، يحاول حالياً جني أكبر قدر من الأرباح عن طريق الاحتكار وإخفاء البضائع المستوردة والمصنعة محلياً، ما يجعل الأسعار ترتفع بشكل خيالي. ووفق تأكيد مطّلعين على طبيعة أعمال هذه الفئة من التجار الصغار والمتوسطين والكبار، فسيكون لسلوكهم وقرارهم تمويل المعارضين أكثر أو الموالين، أثر جذري في مصير الأحداث.
في المحصلة، يبدو المعارضون مرتاحين لسلوك التجّار، ويرون أنّ تحرُّك حلب وريفها في الفترة الأخيرة، وعدد من أحياء دمشق نفسها، ليس سوى دليل على ارتخاء قبضة التجّار فيها، وانحياز بعضهم إلى النشاط الهادف إلى إسقاط النظام، إن لم يكن ذلك بناءً على قناعة بأن النظام سيسقط في النهاية، فعلى أساس ما يرى كثر أنه فشل في إرساء الاستقرار الضروري لسير الأعمال، وأزمة الكهرباء والمازوت والبنزين في جميع المحافظات حيث لم يُصرف الدعم الايراني ــ الروسي ــ الصيني ــ الفنزويلي اقتصادياً على الأرض بعد.



«الكماليّات المسكينة»

كل شيء ارتفع سعره في سوريا بشكل هستيري إلا «الكماليّات» الثقافية، بما أنّ الزمن هو زمن الاكتفاء بالمأكل والمشرب ووسائل التدفئة والوقود، ولا وقت للقراءة أو الاستماع للموسيقى مثلاً. وقد يكون تجّار هذه الكماليات «المسكينة» أبرز الخاسرين من كل ما حصل ويحصل منذ 15 آذار الماضي، لكن المدمنين على هذا النوع من السلع هم أبرز المستفيدين. هكذا، فإنّ زائر «دار المدى» في الصالحية وسط دمشق «سيتوفّق» بأكبر كمية من الكتب وبأرخص الأسعار؛ على سبيل المثال، المجموعة الكاملة لمؤلفات أحد عمالقة الأدب والشعر السوري والعربي، ابن مدينة السلمية في محافظة حماه، محمد الماغوط، بات يمكن شراؤها بنحو 1700 ليرة سورية، أي ما كان يعادل في 26 شباط الماضي نحو 35 ألف ليرة لبنانية، علماً أن سعر المجموعة نفسها كان يعادل 50 ألف ليرة لبنانية قبل نحو شهرين فقط.