… ثورة 1936، بعدها نكبة في عام 1948، فانطلاقة للثورة الفلسطينية عام 1965 من مخيمات الشتات، ثورة إشكالية لا تشبه بشيء ثورة أرز بدأت تتلاشى بعدما قيل إنها «بشّرت بربيع عربي». فنكسة في عام 1968، وشهور ملوّنة بكل ألوان المجازر التي ارتكبت خلال الحرب اللبنانية. ليس المهم إن اختلف اللبنانيون على تاريخهم، المهم لطلاب مدارس المخيمات، الذين يتبعون المنهاج نفسه، أن تكون فلسطين حاضرة في كتاب التاريخ الجديد إذا ما كان سيفرض عليهم.
فتلميذ مدرسة الأونروا يريد أن يعرف ما الذي حدث فعلاً بعد وعد بلفور، وما الذي أتى به إلى مدرسة تابعة لوكالة أممية ألغت فلسطين من التاريخ والجغرافيا منذ زمن. وآخر يريد أن يعرف هل حقاً ان حفلة لأم كلثوم كانت السبب في ضياع أراضي العرب عام 1965كما قيل له؟ وآخر ينتظر نهاية اللجوء في كتاب التاريخ كمن ينتظر نهاية مسلسل تركي رتيب تتكرر إعادة حلقاته.
الأكبر سناً، والذين أنهوا منذ عام تقريباً دراستهم الثانوية التي انتهت معها دراسة كتب التاريخ «اللبنانية»، ينظرون إلى الموضوع بعيون ذويهم الذين كتبوا تاريخ الأمس. «فإذا كان الكتاب سيصوّر الفلسطينيين على أنهم بربر أتوا ليحتلوا لبنان وليقيموا وطناً بديلاً لهم... فليسقطونا من كتاب التاريخ»، تصريح بالعربية الفصحى ليحيى، التلميذ الجامعي الذي يرفض أن يُقال عن الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن بيروت أنهم «غرباء». صديق له يرى أن من حقهم (أي اللبنانيين) أن يكتبوا تاريخهم كما يشاؤون، و«لنا نحن أيضاً الحق في أن نكتب تاريخنا». وبعد أن يصرخ بصديقه ليسمع وجهة نظره قبل أن «يتفلسف»، ينصح واضعي الكتاب «باستشارة الفلسطينيين في الأحداث، لأن معظمهم ما زالوا على قيد الحياة، ويستطيعون إخبارهم عن بطولات الفدائيين وعن المجازر والمخيمات التي سقطت».
هنا يحتدم النقاش بين الشباب الذين يقولون إنهم «اضطروا» إلى دراسة كتاب تاريخ لبناني يتناول أموراً «تافهة» بنظرهم، «كتاريخ الفينيقيين والفراعنة وأمون». يضحكون قبل أن يصحّح أحدهم «قصدو الفرعون المصري توت (عنخ) أمون».
«أليس المنتصر هو من يكتب التاريخ؟!» يسأل خالد محمد قبل أن يجيب بنفسه سريعاً: «طبعاً، بس مين اللي انتصر بلبنان؟ ما هوي دولاب وبيبرم، إذا مع كل تغيير حكومة بدن يغيّروا التاريخ.. والله وتعلمنا». وجهة نظر!! خصوصاً إذا رأى أن اللبنانيين ما زالوا يتقاتلون حتى اليوم للأسباب نفسها التي تقاتلوا من أجلها سابقاً.
ولكن هل انتصر أحد من اللبنانيين ليكتب التاريخ؟ يتساءل أحد الموجودين. «إسرائيل هي التي انتصرت، وهي التي ستكتب التاريخ»، يقول بسوداوية. وهنا تتهكّم إحدى الجالسات «بتعرفي شو!! أحسن شي إحنا نكتب تاريخنا لحالنا وندرّسوا لولادنا بمدارس الأونروا، واللبنانية يسطفلوا ببعض. يعني ليش بدّو يضل تاريخ فلسطين منسي، لازم ولادنا يتعلموا كل إشي عن فلسطين وأبو عمار وأوسلو... شو بيهمّ ابن المخيم إذا كان 14 آذار هني اللي شالو ولا دعمو حسني مبارك أو القذافي؟ ما إحنا ضيّعنا هويتنا لما صرنا ندرس تاريخ غيرنا ونسينا تاريخنا».
طيب بغض النظر عن «المنتصر» وعن تاريخ لبنان «السعيد»، وبغض النظر عن الجدل «البيزنطي» القائم بشأن تاريخ لبنان، بماذا يريد الفلسطينيون أن يوصفوا في كتب منهاج البلد المضيف؟ وإذا ما استطاعوا هم كتابة الدروس التي تتناول الثورة الفلسطينية، فماذا يريدون أن يقولوا؟
«كل شي... ما رح نخبّي ولا شي»، يقول أستاذ التاريخ في مدرسة الأونروا، الذي طلب عدم ذكر اسمه «خوفاً على وظيفته». ويستفيض شارحاً «نحن اللي علمنا العالم كلو الدروس... مش ناطرين من حدا يعملنا تاريخنا.. الأونروا محت فلسطين من التاريخ والجغرافيا، وبعدنا بنعلم الولاد عن قراهم ومدنهم». ولكن عندما تصل الأمور إلى الماضي القريب، فيرفض أن يغيب الفلسطينيون عن تاريخ لبنان الذي أثروا وتأثروا بتاريخه. «من المهم أن تؤرخ المرحلة السابقة، ولكن يجب أن يكون هناك وعي في اختيار التوقيت المناسب لطرح هذا الموضوع. وإذا سمح لنا بالمشاركة في إعطاء وجهة نظرنا في كتاب التاريخ، فعلى الأقل سنطلب أن تسمّى الأشياء بأسمائها». يسكت الأستاذ قليلاً قبل أن يستفيض بالكلام عن علاقة الفلسطينيين واللبنانيين خلال السبعينيات وما بعدها، ليختم أخيراً «بأنه إذا كانوا يرون في بعض قتلاهم شهداء، فنحن أيضاً نرفض بأن يسمّى الفدائيّون ميليشيات». لكن، ألم يشارك الفلسطينيون في الحرب اللبنانية؟ ألم تكن أرض لبنانية جنوباً تسمّى «فتح لاند»؟ أليس التاريخ اللبناني الفلسطيني المشترك أعقد بقليل من هذا التبسيط؟ يجيب الأستاذ منفعلاً «بالطبع كانت هناك بعض الأخطاء وبعض التجاوزات، لكن ذلك لا يعني ألا يركّز التاريخ سوى على هذه الهفوات. كما قلت سابقاً فلتسمّى الأشياء بأسمائها. نحن لا نخجل من تاريخنا، فهو جزء من تاريخ لبنان، وما زلنا حتى الآن ندفع الثمن، وما زال الماضي يلاحقنا». يسكت قليلاً قبل أن يستدرك: «لا أقول إن تاريخ الفلسطينيين في لبنان كله أخطاء، وبالطبع علاقة الفلسطينيين مع اللبنانيين أكثر تعقيداً من أن تضمّها بضع صفحات. فمقابل الحروب التي خاضوها في مواجهة بعض الأحزاب، شارك الفلسطينيون إلى جانب اللبنانيين في المقاومة ضد الإسرائيليين، وحتى (فتح لاند) التي تتحدثين عنها كانت بموافقة اللبنانيين الذين سهّلوا وجود الفلسطينيين في الجنوب ليكونوا في مواجهة مباشرة مع الإسرائيليين». وكمن يحاول التهرب من الأسئلة التي تدور في ذهن الكثير من اللبنانيين يضيف: «أنا شخصياً أرى أن المعمعة حول كتاب التاريخ لن تصل إلى نتيجة، فالأجدى قبل تدوين التاريخ أن تكون هناك مصالحة شاملة وعادلة قبل كل شيء، وبعدها إن أرادوا تغيير منهاج التاريخ فنحن نرحب وبكل رحابة صدر بأن نكون أول المعترفين بأخطائنا». إذاً يعترف أستاذ التاريخ في مدرسة الأونروا بوقوع «أخطاء» متبادلة بين الفلسطينيين واليمين اللبناني، لكن إن رضي الفلسطينيون بالاعتراف بهذه «الأخطاء» فهل سيعاملهم الآخرون بالمثل؟ أولَم تكن تجربة السفير الفلسطيني السابق عباس زكي دليلاً كافياً على «حسن نية» القوات اللبنانية، بعد جلسة المصالحة التي أقفلت ملف المفقودين والمجازر التي ارتكبتها القوات بحق الفلسطينيين في لبنان؟ خصوصاً أن الاعتذار الفلسطيني «الرسمي» قابلته برودة قواتية؟ عند هذا السؤال تنتهي المحادثة مع الأستاذ بحجة أن «جرس الانصراف قد دقّ».
ويطول الجدال بين اللبنانيين بشأن تاريخهم. جدال قد يبتلع الفلسطينيين إذا ما قرروا الدخول في متاهاته. فالخلاف على الأساسيات والمبادئ بتعريف الوطن والمواطن والثورات والشهداء لا يبشّر الفلسطينيين باحتمال إنصاف ماضيهم وشهدائهم. ففريق يريد أن يصوّرهم كوحوش أتت لتقضي على حلم «بشير والعائلة والوطن»، وآخرون يرون فيهم محتلاً وموقظاً للفتنة، وآخرون يؤكدون أن الطلقة الاولى للثورة الفلسطينية كانت نحو العدو الذي لا يزال اللبنانيون غير قادرين على الاتفاق على هويته بعد سنوات مريرة من الحروب الطاحنة.



يرى البعض أن تضمين كتاب التاريخ اللبناني الجديد نبذة على الأقل عن أسباب لجوء الفلسطينيين إلى لبنان، سيجيب عن السؤال الذي يوجهه الكثير من الشباب اللبنانيين إلى نظرائهم الفلسطينيين: «لماذا لا تعودون إلى بلادكم إن كنتم غير مرتاحين هنا؟» يتساءلون بقسوة. وغالباً ما يكون جواب اللاجئين بالسخرية، فهم لا يدركون أن منهاج التاريخ الذي يدرّس في المدارس اللبنانية يتوقف عند عام 1946، أي عقب انتهاء الانتداب الفرنسي للبنان بثلاث سنوات، وقبل عامين من نكبة فلسطين عام 48.