غزة | أتمنى لو تُتاح لعينيّ فرصة الخروج من وجهي. الانفصال عن جسدي. حظهما الوافر أنّ حجمهما الصغير سيوفّر عليهما التوقف طويلاً أمام بوابات وحواجز السفر، هكذا تسافران وحدهما بلا حقائب، إلى اي مكان ترغبان في رؤيته: بعيد أو قريب، لبعض الوقت أو لكثير من الوقت، وحينما تعودان إليّ من جديد، ستمنحناني بما التقطتاه، مساحات ابصار واسعة وجديدة، فأغتني وأقارن وأخرج من حصاري .. ربما وقتذاك سأرى غزة أجمل بكثير مما هي عليه الآن! اما الآن؟ فأنا لا أراها كذلك.
أمنيات في أمنيات هي حياة الفلسطيني المقيم في غزة: أن تُحل مشكلة الكهرباء بقدرة قادر. أي شخص، لا يهم من وكيف ولماذا، المهم أن تُحل مشكلة التنقلات والسفر في غمضة عين. ان تشتغل التدفئة قليلاً فنتمكن من الابتسام. أن تتصالح الفصائل المتخاصمة بين ليلة وضحاها.. حتى أنّ بحر غزّة الذي يحسد الزوار، الغزيون عليه، ويبدون اعجابهم بنظافة شطآنه ومياهه، بجماله الآسر الذي يحمل كل زائر رآه على البوح، ويدفعه لكيل جمل الاعجاب بدون حساب، هذا الإعجاب ذاته يتسبّب لدى الغزّي باندلاع حريق أعصابه! ما الداعي لكل ذلك؟ ربما كون هذا الغزّي لحظتها يتمنى لو يمتلك عيني ذاك الزائر الغريب الآتي من منطقة لا تشبه غزّته التي تهدر في سمائها الطائرات الحربية كل فينة وأخرى، يريد لو يرى شيئا آخر يستطيع ان يقارن به ما يعيشه هنا. كيف سيفهم جمال هذا البحر وزرقته، كيف سيتذوق صفاءه وهو لم يره مرة إلا مقفلاً بالزوارق الاسرائيلية؟ كيف يراه أزرق هادراً يريح العين كما يراه الغريب، دون ان يتذكر أنه لا يستطيع التقدم شبراً فوق الاميال الثلاثة المسموح بها من قبل شرطة الاحتلال الإسرائيلي؟ كيف سيفعل دون أن يجول في خاطره أنّ ما يستشعره ذاك الغريب هو شفقة، ربما تتشكل على هيئة محاولة بحث جادة عن منفذ لحياة مجموعة من البشر يقبعون تحت براثن الحصار ليس إلا؟. دون أن يجول في رأسه أن تلك الزرقة المحدودة ذاتها هي المنفذ الوحيد أمامه لاستنشاق الهواء الرباني النظيف، وأنّه يجب أن يفرح بشدّة لكونه يملك فرصة مراقبة الموج حينما يعانقه أديم السماء، دون أن يتذمّر ثانية واحدة، واحدة فقط. إلى جانب كل ذلك يجب عليه أن يشاطر ذاك الغريب جمالية اللحظة رغم دهشته واستغرابه دون أن يبوح بمصابه.
فالكتمان أفضل خيار كي لا يشكك أحد في سلامة تذوّقه لجمال الطبيعة، ترتسم على محيّاه ابتسامة فاترة فيما يراقب ايماءات ذاك الزائر بهدوء ساخر، أسئلة كثيرة تملأ رأسه، لا يعلم بها أحد سواه: هل هذا بحر غزة الذي أعرفه أم بحر آخر؟ يحاول التأقلم جاهداً كي يبدو طبيعياً أمام نفسه والغريب، هي حيرة يُحاول طردها بعيداً عنه. شيئاً فشيئاً تتراءى له أيام الصيف القادم: لهو الأطفال بمياه البحر، سعادتهم آنذاك، يسلّم أخيراً أنّ البحر جميل فعلاً، وأن الغريب على صواب وهو مخطئ. للأسف، فالأشياء المسلّم بها لم تعد على حالها لدى الغزّي، كل بديهة أصبحت قابلة للشك والتأويل، حتى بات القادم إلى غزة من الخارج كأنّه رسول كريم يذّكر بالشكل الطبيعي للحياة. وكأنّنا فعلاً نسيناها دون أن نعي ذلك، حتى أصبحنا نحتاج بشدة إلى من يذكّرنا بها!