القاهرة | الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لا تختلف كثيراً عن المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية (الأزهر ودار الإفتاء) في ما يتعلق بالعلاقة مع النظام الحاكم. وقد يكون الفارق الوحيد مرتبطاً بالديانة المسيحية والحرية النسبية المتاحة دينياً للكنيسة، بخلاف انعدام الحرية المتاحة للأقباط الذين تبقى نسبتهم من مجموع المصريين متروكة للتخمينات، إذ ترفض كل أجهزة الدولة الإفصاح عنها، بدءاً من «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء»، وصولاً إلى الكنيسة نفسها. وقد اختبر رأس الكنيسة، الراحل البابا شنودة، المواجهة مع الدولة إبان عهد أنور السادات، وهي التي انتهت بنفيه إلى دير في الصحراء الغربية نهاية عهد الرئيس القتيل، قبل أن تتحوّل العلاقة مع خلفه حسني مبارك إلى ودّ دافئ، رغم كل أحداث العنف الطائفي الدامي ضدّ الأقباط خلال عهده. ودّ عبّر عنه مبارك في مجاملات من قبيل تعيين أقباط في مجلسي الشعب والشورى، واعتبار عيد الميلاد عيداً رسمياً. في المقابل، ضحّى شنودة مثلاً بالأب فيلوباتير جميل عام 2005 حين أوقفه عن الخدمة لعامين بعدما انضمّ الأخير إلى صفوف «حزب الغد». ووصل الأمر بالبابا الراحل إلى توجيه الإشادات بجمال حسني مبارك، أوائل عام 2010، كـ«شاب يصلح رئيساً للجمهورية»، وذلك في ذروة تسارع ترتيبات نظام والده في الإعداد لـ«مشروع التوريث» لتولي جمال رئاسة الجمهورية. وواصل شنودة دعمه اللامحدود لمبارك حين قاوم تظاهرات الأقباط احتجاجاً على مذبحة كنيسة القديسين نهاية العام ما قبل الماضي، وهي التظاهرات التي شهدت، ربما للمرة الأولى، الإدانة الواضحة للنظام الحاكم نفسه، لا للمتشددين الإسلاميين. وقبيل اندلاع الثورة المصرية في العام الماضي، وصلت خدمات الكنيسة إلى ذروتها حين حاولت، على لسان قساوستها وأساقفتها، ثني رعاياها عن المشاركة في التظاهرات المقررة في حينها، على حد تعبير الناشط الشاب في «حركة الاشتراكيين الثوريين» بيتر صفوت في حديثه مع «الأخبار». ويؤكد بيتر أن الكنيسة التزمت المسار الموالي نفسه في الأحداث التالية على الثورة. ويورد صفوت أمثلة على ذلك؛ «مثلاً، رفضت الكاتدرائية السماح للأقباط المتظاهرين (من أعضاء حركة اتحاد شباب ماسبيرو) احتجاجاً على أحداث كنيسة امبابة، بدخولها»، وذلك دائماً بمبرر أن «التظاهر ليس من قيمنا، والحل لمصائبنا هو الصيام والصلاة» على حد تعبيره.
وكانت «حركة اتحاد شباب ماسبيرو»، التعبير الأبرز عن محاولة شباب الأقباط التخلُّص من سيطرة الكنيسة على نشاطهم السياسي، قد تأسست على خلفية أول اعتصام للأقباط بعد الثورة في المنطقة التي تحمل الاسم نفسه، احتجاجاً على أحداث حرق كنيسة اطفيح في آذار من العام الماضي، قبل أن يتجدد الاعتصام احتجاجاً على الاشتباكات بين الأقباط والمسلمين، ومحاولة اقتحام كنيسة امبابة، وصولاً إلى مذبحة ماسبيرو في تشرين الأول التي أدت الى استشهاد نحو ثلاثين شخصاً دهساً، وبرصاص الجيش خلال تظاهرات الاحتجاج على أحداث هدم وحرق كنيسة «الماريناب» في أقصى جنوب مصر قبلها بأيام.
وقد أدت مذبحة ماسبيرو كذلك الى تأسيس حركة «كلنا مينا دانيال»، لتحمل اسم أحد شهدائها، الذي كان عضواً بارزاً في «حركة شباب من أجل العدالة والحرية». وتتذكر ماري، شقيقة مينا، في دردشة حزينة مع «الأخبار»، محاولة أحد الكهنة على سبيل المثال إقناع شقيقتها بعدم الاستمرار في التظاهر احتجاجاً على المذبحة، على وقع محاولات البابا شنودة نفسه في حينها ثني ذوي الضحايا عن مقاضاة «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» بحجّة أن أحداً لا يملك دليلاً على أن الجناة من أفراد الجيش. كل ذلك رغم قول ماري «كنا جميعاً متأكدين من الأمر، وكنا نملك أقراصاً مدمجة تصوّر ما حدث، وكنتُ شاهدة عيان على مقتل شقيقي بجواري، لكن البابا كان ينطلق ربما من الخوف على أبنائه» على حد تعبيرها. بجميع الأحوال، استمرّ موقف الكنيسة ذاك بعد الثورة، ووصل إلى شن دعاية ضدّ الدعوة إلى العصيان المدني في الذكرى الأولى لسقوط مبارك في 11 شباط الماضي، على قاعدة العبارة التي أطلقها شنودة قبل شهر على وفاته: إنّ العصيان ليس من الدين.