«يا ليتنا كنا أكراداً». عبارة ساخرة أمكن سماعها أمس على لسان ناشطين سوريين عرب وهم يشاهدون تظاهرات الأكراد بمناسبة عيدهم الأهم، «النوروز»، أو «اليوم الجديد»، في الدرباسية وعامودا بالحسكة، وأحياء القامشلي ومدن عين العرب وعفرين والأشرفية في حلب، وأحياء وضواحي دمشق في وادي المشاريع وركن الدين ومنطقة دمر. «احتفالات» تحوّلت إلى تظاهرات معارضة للنظام وسط إفساح الأجهزة الأمنية المجال لها أو عدم التدخل بعنف كبير ضدها على الأقل، في مقابل جزء آخر تابعه الاعلام السوري الرسمي وقال إنه موالٍ وهو يقيم الاحتفالات والمهرجانات في الشوارع والقاعات المقفلة باسم «المبادرة الوطنية للأكراد السوريين» مثلاً. كل ذلك وسط إعلان «المجموعات الشبابية الكردية» المعارِضة، التي تضمّ «اتحاد تنسيقيات شباب الكورد في سوريا»، و«ائتلاف شباب سوا» (لجان التنسيق المحلية)، و«ائتلاف آفاهي للثورة السورية»، و«تنسيقية التآخي، حلب ــ تنسيقية شباب عفرين»، و«تنسيقية ألند كوباني»، إلغاء الاحتفالات لاستبدالها بتظاهرات داعية لإسقاط النظام والاضراب العام وإضاءة الشموع «حداداً على الشهداء» الذين قُتلوا منذ 15 آذار 2011، ليصبح شعار العيد القومي الكردي، الذي يُحتفل فيه منذ آلاف السنوات، «نوروز حرية سوريا» هذا العام. ورغم ما شهدته المدن السورية أمس من تظاهرات، كان من المفترض أن تكون احتفالات بعيد النوروز، تقول ناشطة كردية معارِضة «لن نحتفل كعادتنا بعيد النوروز، فقد سقط شهداء في هذه السنة، والبلاد في حالة حزن، وبالتالي لا يمكننا أن نقيم احتفالاتنا التي تتضمن غناءً ورقصاً». وتكشف محدثتنا كيف كان يجري التحضير لهذه الاحتفالات في أقبية الأبنية بسبب منع الأجهزة الأمنية، مع اعترافها بأنه في العام الماضي، «قام التلفزيون السوري بتصوير احتفال الأكراد»، وهذا «سبب إضافي لعدم قيامنا بالاحتفالات هذه السنة منعاً لاستغلالها من قبل الإعلام الرسمي».
وللعام الثاني على التوالي، لم يعد على الأكراد إخفاء احتفالاتهم بعيدهم الأهم على الاطلاق، وبات التخفي من الهوية الكردية من ذكريات الماضي، وأصبح أكثر من طبيعي أن تخرج احتجاجات الأكراد ضد النظام، وأن تنتشر اللغة الكردية في شوارع دمشق حتى، وهو ما يترافق منذ العام الماضي، منذ ما بعد 15 آذار 2011 تحديداً، مع مغازلتهم من قبل النظام من خلال معايدتهم وصدور مرسوم رئاسي بإعطاء الجنسية السورية لعدد كبير منهم، وهو ما سمح لهم للمرة الأولى بالمشاركة في الانتخابات البلدية والاستفتاء على الدستور، علماً أن بعضهم بدأوا يستعدون بالفعل للترشح والتصويت في الانتخابات البرلمانية في أيار المقبل.
ورغم حضور الشارع الكردي في اليوميات السورية الصاخبة منذ 15 آذار من العام الماضي، إلا أن الموقف المشترك بين كثير من الناشطين المعارضين الميدانيين، لا يزال يتفق على أنّ الحراك الكردي «متوسِّط». هو موجود بالفعل، غير أنه أيضاً متفاوت القوة ولا يشبه الانتفاضة الكردية التي اندلعت في مدينة القامشلي في مثل هذه الأيام من العام 2004 بمنسوب غضبها على الأقل. ناشطون عرب «بعيدون عن الفكر والتعصب القوميين»، يعترفون بأنّ «الزلزال الكردي» لم يحن وقته بعد، وهو ما يحزنهم، بسبب معرفتهم أنّ الأكراد «هم أكثر فئة قادرة على تشكيل القوة الضاربة لإسقاط النظام، على الأقل من حيث استعدادهم لتقديم أكبر عدد من مشاريع الشهداء»، على حد تعبيرهم. مسألة يدرك أهميتها الجميع، لكن الاستعداد «للتنازُل» من قبل طرفَي السلطة والمعارضة لاستمالة الشارع الكردي لا يزال بحاجة إلى عمل كثير. معارضون زائرون للمناطق ذات الكثافة الكردية، يؤكدون أن الوضع ليس مثلما يصوّره كل من الاعلام الرسمي من جهة، والاعلام العربي المناهض للنظام من جهة أخرى. لا الوضع مستتب، كالسويداء مثلاً، ولا هو مثل حمص أو إدلب من حيث الخروج على السلطة والمعارك العسكرية. هو شيء بين الاثنين؛ في معظم أيام الجمعة، يكون الوضع لصالح المعارضة طبعاً، من حيث توزع التظاهرات المعارِضة على عدد كبير من المدن والأحياء الكردية. وقد سجّلت المشاركات الكردية في الحراك الشعبي السلمي تواريخ مهمة من حيث سرقة مناطق الأكراد الأضواء من مناطق أخرى، على صعيد كثافة المشاركة في التظاهرات المعارضة، وهو ما تجلّى خصوصاً في تشييع القيادي في تيار المستقبل الكردي، مشعل تمو، في تشرين الأول الماضي، وقبلها في «جمعة آزادي» (الحرية بالكردية) في 20 ايار الماضي، إضافة إلى «جمعة الانتفاضة الكردية» في التاسع من الشهر الجاري، التي شاء منظموها أن تكون بمثابة تحيّة للأكراد في ذكرى أحداث آذار 2004. لكن كل ذلك لا يزال غير كاف لكي يعتبر الناشطين أنّ المشاركة الكردية في انتفاضتهم مرضية، وهم في كل الأحوال يملكون فكرة واقعية للأسباب التي تقف خلف بقاء هذه المشاركة في حجمها الحالي. ويسرد معارضون شباب، بعضهم أكراد، مجموعة من الأسباب التي «لم تعد أسراراً». من بينها، يقولون، إنّ الأكراد، في جزء كبير من أحزابهم الـ 13، منقسمون بين «مسعود البرزاني وعبد الله أوجلان»، بمعنى أن الأول يقود محاولات توجيههم نحو الانخراط الكامل في الحراك المعارض (رغم فشل اجتماع أربيل في ضمّ المجلس الوطني السوري الكردي إلى المجلس الوطني السوري)، والثاني يؤدي الفرع السوري من حزبه (الاتحاد الوطني برئاسة صالح مسلم) «دوراً موالياً للغاية، حتى أمنياً»، بحسب المعارضين.
وفي جلسة مطولة مع شباب أكراد ينشطون في «تنسيقيات الثورة»، يشير أحدهم إلى أنهم عملوا على «ألا يكون هناك تنسيقية كردية على نحو صافٍ، كي لا يعمد النظام إلى اتهامهم بالدعوة إلى الانفصال، فعملنا على الانتشار والتواجد في مختلف التنسيقيات للمحافظة على هذا التنوع». ويتحدث ناشط كردي في حي ركن الدين عن «ظاهرتين جديدتين وُلدتا في الآونة الأخيرة في الشارع الكردي، وهما الشبيحة الأكراد الموالون، وكتيبة أحرار عفرين العسكرية». ويشير الناشط إلى أن صفة «شبيحة الكرد» ظهرت على نحو رئيسي بعد الحوادث التي جرت في منطقة عفرين (حلب) في «جمعة عذراً حماه سامحينا»، حين قام شبان أكراد بالاعتداء على متظاهرين أكراد. وغالباً ما توجَّه تهمة «التشبيح» إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، «الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني»، المتهم أيضاً من قبل البعض باغتيال رئيس تيار المستقبل الكردي، مشعل تمو.
ويتابع محدثنا الكردي بأن «الظاهرة الثانية هي كتيبة أحرار عفرين»، وظهرت في تسجيل مصوّر عرّفت فيه عن نفسها باللغتين العربية والكردية، وقد حمل أفرادها علم سوريا ما قبل استلام حزب البعث السلطة، وعلم كردستان. وهناك روايتان حول هذه «الكتيبة»، البعض يعتبرها تابعة لـ «الجيش السوري الحر»، والبعض الآخر يؤكد أنها منشقة عن حزب «العمال الكردستاني».
ويشرح مطلعون على حراك الأكراد أن هؤلاء يحاولون الاستفادة من الوضع الذي بدأ في 15 آذار، لـ «ابتزاز» طرفَي المعارضة والسلطة، على قاعدة أنّهم غير مستعدّين للمساهمة لا في إسقاط النظام، ولا في دعمه، «مجاناً»، أي من دون وعود مكتوبة من قبل معارضي اليوم بتحقيق مطالبهم التاريخية إذا تسلموا السلطة: الثنائية القومية، وحلّ مشكلة الأراضي الكردية التي انتُزعت من أصحابها، وتسوية أزمة «الطوق العربي» الذي تُرجم بإسكان العرب في مناطق الأكراد في سبعينيات القرن الماضي، والاعتراف باللغة الكردية لغةً رسمية، واعتماد نظام فدرالي في سوريا، واعتبار عيد النوروز عيداً رسمياً، وإعادة الجنسية السورية إلى الآلاف ممن حُرموا إيّاها في الإحصاء الشهير لعام 1962، وإصدار عفو عن المقاتلين في صفوف حزب العمال الكردستاني، وتنمية المناطق الكردية الأفقر في البلاد، وتحديد منذ الآن نوع العلاقة مع تركيا... سياسة «ابتزاز» يصفها المعارضون بأنها «ليست في مكانها ولا مفيدة للأكراد»، بما أن القاعدة معروفة: ما لم يشاركوا الأكراد جدياً في «الثورة»، فإنّ «مكاسبهم»، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ستكون قليلة إن لم تكن معدومة.
مطالب الأكراد يعرفها النظام جيداً، لذلك يحاول مغازلتهم على نحو يفاجئ الأكراد أنفسهم، لكنه لم يتبنَّ بعد أيّاً منها بالشكل المطلوب كردياً، وهو ما تجلى في استحقاقات عديدة، وما يرى ناشطون معارضون أكراد أنه أسهم ويسهم وسيسهم أكثر في انحياز الأكراد إلى صفوف المعارضة؛ فرغم الوعود والآمال، لم تتغير المعادلة في الدستور الجديد، وبقيت العروبة ولغتها، القومية الوحيدة في البلاد ولغتها الرسمية، رغم الإشارة إلى أنّ ذلك لا ينتقص من القوميات الأخرى، بحيث يبقى جميع المواطنين متساوين. أما عرض النظام تجنيس أعداد من الأكراد، فلم يجدِ تماماً، على حد تعبير المعارضين أيضاً، ويعيدون ذلك إلى شعور الأكراد بأن «العرض» جاء لـ «شراء» ولائهم، «فرفض جزء كبير منهم نيل الجنسية»، على حدّ تعبير ناشطين معارضين يعترفون بأنه لم تُسجَّل بعد معارك عسكرية في المناطق ذات الكثافة الكردية، وهو ما يفسّروه أيضاً بتفادي السلطة السورية استفزاز الأكراد وتحاشي مواجهتهم ومحاولة فصلهم عن العرب من خلال التذكير بمواقف بعض الشخصيات السورية العربية، من حيث عدم احترام الأكراد أو التعاطي معهم بدونية اجتماعية أو سياسية. وهنا، لا يزال استذكار تصريحات بعض أركان المعارضة، من أمثال رئيس المجلس الوطني السوري برهان غليون، الذي شبّه أكراد سوريا بـ «مهاجري فرنسا»، يثير غضب الأكراد. موضوع يفتح الذاكرة الكردية على سياق أشمل، إذ إنّ «التمييز ضد الأكراد ليس حكراً على السلطة، بل يتشارك معها فيه طيف واسع من معارضي الأمس واليوم»، على حد تعبير ناشط عربي متضامِن مع القضية القومية والإنسانية والسياسية لأكراد المنطقة.
ولا يزال شباب أكراد كثُر متريثين في إعلان انضمامهم على نحو تام للحراك السوري المعارض، بسبب إصرار فئات عدة من المعارضة على عدم الاعتراف بهم أو اتهامهم بالنزعة الانفصالية، التي لا ينكر بعض الناشطين منهم وجودها، وإن على نحو محدود. ويرى ناشطون أن مشكلة الأكراد السوريين ليست مع النظام بقدر ما هي مع تركَتِه السياسية والاجتماعية المتمثلة في استبعاد وتشويه وإقصاء وتعريب الأكراد والجغرافيا الكردية تاريخياً. «تَرِكَةٌ» طاولت، بحسب مصدر كردي، بعض رموز المعارضة في تعاطيهم مع الشأن الكردي، إذ «لا يوجد أي دليل أو ملمح على استعداد جدي للمعارضة بالاعتراف بالحقوق الكردية، وكل ما يقوله أركان المجلس الوطني أخيراً هو بالنسبة إلينا حبر على ورق، بما أنّ قوى المعارضة تحاول التحدث بلغة ضبابية أقرب ما تكون إلى الكلام الإنشائي، حينما يتعلق الأمر بالقضية الكردية، وفي الوقت نفسه لا تزال هذه القوى مصرّة على مطالبة الأكراد بدعم برنامجها السياسي من دون التركيز على حقوق هذه القومية، ولعل هذا هو السبب وراء ضعف العلاقة بين المعارضين الأكراد وأعضاء هيئات المعارضة السورية إجمالاً».
وعن هذا الموضوع، لا تزال السجالات حاضرة حول مَن مِن الطرفين الرئيسيين للمعارضة السورية يمثّل الأكراد أكثر، «هيئة التنسيق» أم «المجلس الوطني». الأولى تقول إن أحزاباً وتنسيقيات كردية عديدة موجودة في صفوفها، وهو ما يقابله «المجلس الوطني» بالتأكيد أن الشباب الكردي مؤيد له، بدليل تمثيل الأكراد بـ 20 عضواً في الأمانة العامة للمجلس، ووجود شخصيات كردية مهمة في قيادته، كالراحل مشعل تمو، وعضو المكتب التنفيذي الحالي للمجلس، عبد الباسط سيدا مثلاً.
وتبدو مسألة النزعة الانفصالية في طريقها للتصاعد «للأسف»، على حد تعبير ناشطين قادمين من الحسكة، أبرز المناطق السورية ذات الكثافة الكردية، بما أنّ «الأيام الماضية شهدت تظاهرات دعت إلى لانفصال ورفعت العلم الكردي، وكان من اللافت أن قوات الأمن غضّت النظر إلى حد ما عنها، فيما قمعت بشدة تظاهرات أخرى طالبت بإسقاط النظام، وهو ما فتح الباب أمام أحزاب تقليدية للعودة إلى تفعيل دعواتها للانفصال عن سوريا، رغم جهود عشرات الناشطين في الجزيرة السورية إلى احتواء هذه الدعوات». وبحسب المصدر الكردي نفسه، فإنّ «واقع الأكراد في الثورة سيحدّده مَن يستطيع احتواء القضية الكردية ضمن التركيبة السورية من جديد، من دون تمييز كما حصل في السابق».



جنسية وتعريب ومصادرة أراضٍ

المكان: ركن الدين أو «حي الأكراد» في دمشق. المتحدث محامٍ «مختص» في الملف الكردي. يفتح المحامي حقيبته ليُخرج منها دراسة أعدّها عن التراكمات والأخطاء القانونية بحق الأكراد، تنقسم ضمن ثلاثة محاور: الأول هو الإحصاء السكاني بتاريخ 5 تشرين الأول 1962، حيث قامت الحكومة السورية بالإحصاء الاستثنائي لمحافظة الحسكة، وكان من نتائجه تجريد أكثر من 120 ألف مواطن كردي من الجنسية السورية. المحور الثاني هو وضع الدولة يدها عام 1966 على 138853 هكتاراً من الأراضي الزراعية في الجزيرة لإنشاء مزارع للدولة جرى توزيعها مع بداية السبعينيات على عائلات بدو وعربية من الرقة وحلب، وسكنت على طول الطريق بين عين دوار وسري كانييه. أما المحور الثالث، فهو تعريب أسماء الشوارع والمدن الكردية، من خلال التعميم الصادر عن محافظ الحسكة مثلاً في 1995، الذي يؤكد فيه وجوب التقيد ببلاغ وزارة الإدارة المحلية بعدم تسمية المحال العامة والخاصة بأسماء أو بكلمات أعجمية (غير عربية)، إضافة إلى القرار الذي يقضي بتعريب أسماء المدارس في الحسكة، وقد شمل القرار اسم 209 مدارس.