الخرطوم | كان على الوعد قبل عام من الآن مسجلاً حضوراً في ذاك الميدان الشهير، «ميدان أبو جنزير» وسط العاصمة الخرطوم، حينما تخاذل الآخرون من قادة المعارضة، كان أكبرهم سناً وأكثرهم شجاعة، وذلك بمجيئه في الموعد المضروب لتجمع المعارضة، الذي كان الغرض منه نصرة شعوب الربيع العربي. وثّق حضوره ذاك في التاسع من آذار من العام الماضي بكتابته عبارة «حضرنا ولم نجدكم»، لكن أول من أمس كان محمد إبراهيم نقد، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، هو الغائب الأكبر، إذ وافته المنية في عاصمة الضباب التي كانت مقصده قبل نحو شهرين لطلب الاستشفاء من مرض في القلب. وهناك اكتشف الأطباء وجود ورم في الدماغ، وعلى الرغم من ذلك ظل الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي محتفظاً بروحه المرحه حسب مرافقية من أسرته، إلاّ أن حالته ازدات سوءاً الثلاثاء الماضي، حيث دخل في غيبويه حتى توفي يوم الخميس.
نقد، الذي رحل عن عمر ناهز 82 عاماً، ولد عام 1930 في مدينة القطينة جنوبي الخرطوم، قضى قرابة الثلاثين عاماً من عمره فى المخابئ إبان حقب الدكتاتوريات المتعاقبة على السودان. فبعدما سجل اسمه رسمياً في قوائم الحزب الشيوعي السوداني العريق عام 1949، سطع نجمه ليبدأ طريق الزعامة، وأهّلته لذلك مواقفه الصلبة تجاه قضايا بلاده من سن مبكرة، إذ شارك في عمر الـ 16 في التظاهرات الشهيرة التي عاشها السودان عام 1946 ضد المستعمر.
أول اختفاء لنقد، الذي التحق بقسم الآداب بكلية غردون، «جامعة الخرطوم حالياً» عام 1950 قبل أن يُفصل منها بسبب نشاطه السياسي، سجل عقب انقلاب 17 تشرين الثاني عام 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود ليقضي في مخبئه 5 أعوام لإدارة العمل السري للحزب، بعدما اختار منذ عودته إلى بلاده قادماً من أوروبا، التي رحل إليها عام 1953 للالتحاق بكلية الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة صوفيا في بلغاريا، التفرغ للعمل في صفوف الحزب الشيوعي السوداني.
خلال حكم عبود أيضاً خبر نقد سنة من السجن قبل أن يعود إلى النشاط العلني مع انتفاضة تشرين الأول 1964، ليدخل البرلمان للمرة الأولى عام 1965 مرشحاً عن الحزب الشيوعي في دوائر الخريجين، لكنه لم يكمل دورة البرلمان بسبب قرار حل الحزب الشيوعي، ليواصل نقد عمله السياسي في حقبة بالغة الحساسية والتقلبات السياسية إبان حقبة الديموقراطية الثانية، التي أطاحها جعفر نميري عام 1969، عبر انقلاب تصالح فيه ولمدة قصيرة مع الشيوعيين، قبل أن يعاديهم مجدداً عام 1971 ويعدم عدداً كبيراً من قادة الحزب، بمن فيهم السكرتير العام للحزب الزعيم عبد الخالق محجوب، والرفيقان الشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق.
أما نقد، فتولى منذ ذلك الحين سكرتارية الحزب. وطوال 14 عاماً اضطر فيها إلى البقاء مختفياً، أدار نقد شؤون الحزب في أحلك الظروف، ليخرج بعد انتفاضة نيسان 1985، التي أطاحت حكم نميري، ويعود نائباً عن حزبه في انتخابات 1986 إبان الديموقراطية الثالثة، إلى أن جاء انقلاب عمر البشير في الثلاثين من حزيران 1989. انقلاب الإنقاذ قطع سير الديموقراطية وأودع قادة الأحزاب السجن، بمن فيهم الرفيق نقد، ليطلق سراحه في1991 بشرط التحفظ المنزلي، لكن نجح الزعيم الراحل في الاختفاء الثالث له في شباط 1994، عندما غاب عن أنظار مراقبيه وهو يمارس رياضة المشي ليغيب مدة 11 عاماً، انتهت في نيسان 2005. يقول نقد عن سني اختفائه تلك إنها كانت من أكثر الفترات في حياته التي مارس فيها هوايته المحببة الى نفسه «القراءة»، حيث كان الراحل شغوفاً بالقراءة، لذا حرص بعد خروجه الى العلن على الاستعانه بأحد شباب الحزب ليرتب إليه الكتب التي ضاقت بها رفوف مكتبته، حتى تسهل عليه مهمة اختيار الكتب، كما عكف خلال سنوات عمره على تأليف العديد من الكتب، إذ كان مهموماً بصورة أكبر بقضية دارفور، ومن مؤلفاته «قضايا الديموقراطية في السودان»، و«حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» و«علاقات الأرض في السودان: هوامش على وثائق تمليك الأرض» و«علاقات الرق في اﻟمجتمع السوداني» و«حوار حول الدولة المدنية».
حكح عنه أحد جلسائه من أعضاء الحزب لـ «الأخبار» كيف أنه كان يلاطف الأطفال بصورة فيها الكثير من الحنان والمودة، ليضيف إن فترة انقطاع نقد المتكرر لم تمنعه من التواصل الاجتماعي مع جميع أفراد عائلته الكبيرة. فقد كان محباً للحياة الأسرية على الرغم من أن الحياة لم تمنحه فرصة أن يكوّن أسرته الخاصة، إلّا أنه استعاض عنها بحبه اللامحدود لشقيقه وشقيقته (عبد الله وفائزة). وروت شقيقته أنه كان يذكّرها دائماً باحتفال عيد الأم، كما كان محباً لكل تفاصيل الشخصية السودانية.
كذلك تحدث أحمد، أحد الشباب اللصيقين به، ولا سيما خلال الثلاثة أشهر الأخيرة، عن تأثر نقد الشديد برحيل رفيق الدرب والنضال التجاني الطيب، الذي كان يعده أقوى منه وأكثر منه تحملاً للمصائب والمصاعب. وقال أحمد لـ «الأخبار» كان نقد في الفترة الماضية قلقاً بسبب المرض ويحرص على دعوة الناس إلى الجلوس معه داخل مكتبه. وأضاف «في آخر مقابلة جمعتني بالراحل قدم إلي مؤلَّفين، ثم أردف موجّهاً حديثه إلي قائلاً: اقرأ».
وبدا لافتاً فقدان الحزب الشيوعي ثلاثة من أعضائه خلال العام الحالي (الفنان محمد وردي، الشاعر محمد سالم حميد، ثم أخيراً محمد ابراهيم نقد). بيد أن الكثير من المتابعين يروون أن فقدان الحزب لنقد سيؤدي الى انفراط عقده. فالرجل يتمتع بكاريزما مكّنته من الحفاظ على كيان الحزب رغم الأنظمة الشمولية التي تعاقبت على سدة الحكم في السودان. فهو صاحب شخصية ساخرة وحكيمة لا أحد في الحزب يستطيع تجازوها، مثلما يتمتع بذكاء حاد مكّنه من أن يتبوّأ منصب المفكر الأول داخل حزبه، ومع ذلك ظل مجدداً في أفكاره تلك، غير متكلس يميل بآرائه ناحية الجماعة، كما عرف عنه انحيازه إلى فئة الشباب، يعطيهم أوسع الفرص في النقاش وإبداء الرأي. بالأمس حينما أتوا معزين أنفسهم في زعيمهم الأوحد، الذي خبروه طيلة حياتهم عاهدوه هاتفين بأنهم على الدرب سائرون، وبأن كفاح الطبقة العاملة سيعيش الى الأبد.
في المقابل، لم تقبل طبقة الشباب داخل الحزب الشيوعي، المكلومة برحيل نقد، أن تتقبل التعازي أول من أمس من قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وظلوا يرددون هتافات مضادة لهم، مسجلين بذلك أول رسالة بعد رحليه، تفيد بعدم نيتهم مهادنة نظام عمر البشير.
ووفق شهود عيان داخل سرادق العزاء، فإن مجموعة من الشباب أطلقت هتافات معادية في وجه وفد يمثل حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أتى لتقديم واجب العزاء، وضم كلاً من ابن الصادق المهدي، المشارك في الحكومة، عبد الرحمن المهدي، ورجل الأعمال المنتمي إلى الحزب جمال الوالي، وفي معيّتهم رئيس وفد حكومة دولة جنوب السودان باقان أموم، الذي قطعاً لم يكن مقصوداً بتلك الهتافات السالبة.
في المقابل، أفاد شاهد عيان لـ «الأخبار» بأن أعضاء اللجنة المركزية للشيوعي بقيادة الشفيع خضر وسليمان حامد تلقوا التعازي عقب صلاة الجمعة من النائب الأول للرئيس علي عثمان طه، الذي حضر إلى منزل الراحل دون الصخب والضوضاء اللذين أتى بهما منسوبو الحزب في اليوم الأول، فجلس قرابة خمس عشرة دقيقة دون أن يهتف أحد ضده، وذلك بانتظار أن يقيم الحزب الشيوعي السوداني مراسم تشييع لزعيمه، دون أن يلتفت الى إقامة مراسم تشييع رسمية من الدولة، التي نعت نقد عبر رئاسة الجمهورية السودانية، مقرةً هذه المرة بأنه كان «زعيماً وطنياً وقائداً سياسياً له إسهاماته المشهودة في المسيرة الوطنية والسياسية».