رام الله | كان قد انتصف شهر نيسان من عام 2002، حين اجتاحت قوات الاحتلال المدن الفلسطينية تحت عنوان عملية «السور الواقي»، ووضعت نصب أعينها وقتها، القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي، الذي نجح بالاختفاء لمدّة ثلاثة أسابيع، قبل أن يُعتقل في ظروف لا تزال مجهولة. البرغوثي هو النائب في المجلس التشريعي، وأمين سر حركة «فتح» في الضفة الغربية، لكن دولة الاحتلال وجهت له تهمة قيادة كتائب شهداء الأقصى، وعدّت اعتقاله نجاحاً كبيراً لجيشها، وأصدرت عليه أحكاماً وصلت إلى خمسة مؤبدات وأربعين عاماً، في إشارة إلى إدراك الاحتلال لما يمثّله البرغوثي من «خطر عليها»، وهو ما عبّر عنه أحد قادتها عبر وصف البرغوثي بـ«أبو عمار الصغير»، وبالتالي فإن وجوده خارج السجن سيجعله بكل تأكيد «قائداً وطنياً لكل الشعب» حتى للمعارضين له أو للسلطة أو لـ«فتح». وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون، في سيرة هذا الرجل «إنه يفضل موته على اعتقاله»، على اعتباره مهندس الانتفاضة وعقلها المدبر ورمزاً للوحدة الوطنية ومقاومة الاحتلال.
ورغم غيابه القسري عن الساحة الفلسطينية، إلا أنه لا يزال يتصدر المشهد بقوة، حيث أظهر استطلاع للرأي أن ما نسبته 55 في المئة من الفلسطينيين سينتخبون مروان البرغوثي، إذا ما ترشح للانتخابات الرئاسية الفلسطينية إن أصرّ الرئيس محمود عباس على عدم الترشح لتلك الانتخابات.
المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، الذي أجرى الاستطلاع، أوضح أن البرغوثي اكتسح مرشحي «فتح» بفارق كبير، حيث حصل على 55 في المئة من أصوات المستطلعين، فيما حصل المرشحون من بعده على نسبة 3 في المئة، بحيث فضل الجمهور ترشيح البرغوثي للانتخابات الرئاسية، يليه صائب عريقات وناصر القدوة ومحمود العالول (3 في المئة لكل مرشح)، فيما حصل كل من أبو ماهر غنيم وأحمد قريع على 2 في المئة لكل منهما، وحصل عزام الأحمد وجبريل الرجوب على 1 في المئة لكل منهما.
هذه الشعبية وهذا الحضور القوي للبرغوثي، يعلّله لـ«الأخبار» المحلل السياسي خليل شاهين، بثلاثة عوامل رئيسة: أولها «العامل الكفاحي، حيث إن الرجل كان دائماً في طليعة القادة الواقفين في صفوف الشعب، كذلك فإنه أُبعد سابقاً، وتعرض للاعتقال، ومع انطلاق الانتفاضة الثانية، تصدر صفوف المتظاهرين، وبالتالي فإن العامل الحاسم لشرعية أي قائد هو انخراطه في صفوف الشعب، وهو ما فعله البرغوثي».
أما العامل الثاني، بحسب شاهين، فهو «طبيعة الخطاب الذي يتبناه البرغوثي، لأنه خطاب وطني بامتياز وليس فئوياً أو فتحاوياً. البرغوثي سار على مسار بعض القادة الوطنيين أمثال الراحل عرفات، وجورج حبش، وأبو إياد، وأبو جهاد، وغيرهم». العامل الثالث يتعلق بـ«المواقف الصلبة» التي يتمسك بها البرغوثي «والتي تمثلت في ما ورد في رسالته الأخيرة التي وجهها من سجنه وتحدث فيها عن المسار السياسي، والتفاوضي العبثي، والمصالحة والفساد، ما قد يدفع إلى تبني مسار جديد في الاستراتيجية الفلسطينية للمرحلة القادمة».
إضافة إلى ذلك، فإن الرؤية التي يطرحها البرغوثي، يقول شاهين «تخيف إسرائيل لأنها قد تشكل بداية شق مسار جديد في المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل بهدف عزلها دولياً، وهو ما تعتبره إسرائيل خطراً داهماً عليها».
ورغم أسره، فإن الاحتلال لم يستطع أن يوقف نضال البرغوثي، الذي وجه أخيراً رسالة إلى الشعب الفلسطيني من داخل سجنه، في ذكرى مرور عشرة أعوام على اعتقاله، دعا فيها إلى وقف كافة أشكال التنسيق الأمني والاقتصادي مع إسرائيل، وإطلاق مقاومة شعبية واسعة النطاق. وفي رسالته هذه قال: «أثبتت التجربة أنه لا يوجد شريك للسلام في اسرائيل. والاسوأ من ذلك أن الاستيطان تضاعف خلال عقدين من المفاوضات ثلاثة أو أربعة أضعاف، وتهويد القدس يتسارع على نحو غير مسبوق. يجب تأكيد الحق المطلق لشعبنا في مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال والوسائل والأساليب، وتركيز هذه المقاومة في الأراضي المحتلة عام 1967، مع أهمية اختيار الشكل والأسلوب المناسبين للمرحلة».
كذلك تحدث في رسالته عن أهمية انجاز المصالحة والوحدة الوطنية، وضرورة تعامل القيادة الفلسطينية الجاد والمسؤول مع هذه القضية. وحث على المزاوجة بين المقاومة والعمل الدبلوماسي السياسي والتفاوضي والنضالي والجماهيري الشعبي. ودعا الى مقاطعة شاملة للمنتجات والبضائع الاسرائيلية رسمياً وشعبياً، وتشجيع المنتج الوطني الفلسطيني، وتجديد الجهد للحصول على عضوية فلسطين في الأمم المتحدة. ولم ينس البرغوثي القضية الأهم، وهي مكافحة «الفساد» الذي عدّه وجهاً آخر للاحتلال، وقال «إن الحساب يجب أن يطاول رموز الفساد الذين لم يتعرضوا للمساءلة حتى هذه اللحظة».
قد يختلف الشارع الفلسطيني على المصالحة ولكنه متفق على الحضور القوي البرغوثي، وعلى خطابه الوطني، وعلى أنه رغم سجنه للعام العاشر على التوالي، فله الكلمة الفصل في الكثير من المواقف الحساسة، سواء في ما يتعلق بالأسرى، أو بفتح، أو بالسلطة.



ولد الأسير والنائب الفلسطيني مروان البرغوثي عام 1959 في قرية كوبر إلى الشمال الغربي من مدينة رام الله، وانخرط في حركة «فتح» في سن الخامسة عشرة. وأسرته قوات الاحتلال الإسرائيلية وزجته في السجن، عند بلوغه الثامنة عشرة عام 1976، وهناك تعلم اللغة العبرية. وبعد إطلاق سراحه، ترأس البرغوثي مجلس الطلبة في جامعة بيرزيت، وتخرج منها، ونال شهادة الماجستير في العلاقات الدولية. واعتُقل في المرّة الأخيرة عام 2002.