الخرطوم | «أيها الردى أتاك عريس المجد». وكأنهم عندما رفعوا تلك اللافتة خلال تشييع سكرتير الحزب الشيوعي، محمد إبراهيم نقد، قبل أسبوعين، يجعلون من موته مناسبة لتأكيد سموه عن الصغائر، وهو الذي كان طوال حياته رمزاً للصمود والزهد. هذه الأسباب نفسها جعلت رفيقه في المرحلة الثانوية، زعيم حزب المؤتمر الشعبي حسن الترابي، يأتي ليلقي نظرة الوداع على ذلك الجسد الذي أضناه البحث عن الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
لكن، على ما يبدو، إن وفاء الشيخ الإسلامي لصديق صباه لم يمنحه صكوك الغفران من منتسبي الحزب الشيوعي، إذ علت هتافات مناوئة له بمجرد اعتلائه منصة الخطابة في حفل التأبين تردد والغضب يتملكها «يا خرطوم ثوري ضد العسكر والكيزان». أما زعيم المؤتمر الشعبي المعارض، فاكتفى بتوصية رفقاء الراحل نقد في الحزب الشيوعي بأن لا يحدث عقب موت زعيمهم فتنة بينهم، وتمنى منهم أن يكون رحيله مدعاة لوحدتهم لا لشتاتهم. وأوضح الترابي أن لاخوف على مستقبل الحزب الشيوعي لأنه حزب منظم غير قائم على التوريث مثل أحزاب عقائدية أخرى يرث فيها الأبناء آباءهم في المناصب.
ويطابق ما قاله الترابي واقع الممارسة السياسية والتنظيمية في الحزب الشيوعي السوداني، إذ إن الأخير من أعرق الأحزاب اليسارية في أفريقيا، وامتاز عن غيره في الساحة السياسية السودانية بالتعافي من أمراض القبلية والجهوية التي تقعد الترقي والتدرج نحو القمة في الأحزاب الأخرى. هذه الصفات لم تمنع من بروز تساؤلات عن مستقبل الحزب بعد رحيل زعيمه التاريخي، إذ إن المخاوف على وحدة الحزب اليساري أخذت طريقها إلى العلن منذ انعقاد مؤتمره الخامس في عام 2009. فقد كان السكرتير الراحل يزمع التنحي وإفساح المجال لدماء جديدة، غير أن حدة الانقسام بين أعضاء الحزب المرشحين المحتملين لخلافته، وهما الشفيع خضر وسليمان حامد، دعت محمد إبراهيم نقد وأعضاء اللجنة المركزية للتراجع، ليعاد انتخاب نقد لموقع السكرتير. وحينها علق المراقبون بالقول إن إعادة تسمية نقد لا تعد غير تأجيل لما هو واقع بلا شك من خلاف، وقد يكون في مداولات المؤتمر السادس للحزب ساحة متسعة لهذا الصراع. إلا أن رؤية الجموع التي هبت في مواكب تشييع نقد، لم تظهر فقط أن الحزب الشيوعي قوة لا يُستهان بها، وإن كان من حيث العدد، بل دفعت بعض المراقبين إلى ترجيح أن تؤدي فاجعة رحيل الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي السوداني إلى وحدة شاملة بين أركان الحزب، بما في ذلك إعادة اندماج المجموعات المنسلخة عن الحزب في أوقات سابقة. ووفق مصدر من داخل الحزب تحدث لـ«الأخبار»، فإن إدراك الشيوعيين لمصائبهم الكثيرة سيعطيهم دوافع قوية إلى الوحدة في الكيان الأم مرة أخرى.
وبينما تضج الساحة السياسية بالتكهنات حول من يخلف نقد، يلتزم كل الرفاق في الحزب الشيوعي الصمت والسرية في كل تحركاتهم، مؤكدين في ذات الوقت أن تعيين من سيخلف نقد سيحصل بكل سلاسة. فرغم فقدهم العظيم، إلّا أن حالة الثبات التي بدت واضحة على أعضاء اللجنة المركزية تنبئ بأن كل شيء تحت السيطرة وأن الأشياء منظمة ومتفق عليها بصورة جماعية. ومنذ وفاة نقد، انخرط أعضاء اللجنة المركزية في اجتماعات متواصله تجري بسرية كاملة كان آخرها الجمعة الماضي، وحسب ما هو منصوص عليه في الدستور فقد أعطى اللجنة الحق في ترشيح من يرأس الحزب في حال حدوث شيء ما إلى رئيسه حتى التئام المؤتمر السادس للحزب في عام 2014. وحسب تسريبات من داخل اللجنة المركزية للحزب، فإن الترشيحات انحصرت في تسمية عضوين هما سليمان حامد وعضو اللجنة المركزية من عمال مدينة عطبرة شمال السودان، محمد الخطيب لتسمية أحدهما سكرتيراً عاماً للحزب. ويشير مراقبون إلى أن تسمية السكرتير الجديد في الغالب ستكون خلال الاجتماع المقبل للجنة المركزية، مرجحين أن يلتئم خلال شهر باعتبار أن عضوية اللجنة منتشرة داخل السودان وخارجه.
وفي أول رسالة علنية أعقبت عملية التشييع، أكد المتحدث باسم الحزب يوسف حسين، لأعضاء الحزب الذين أتوا من كل ولايات السودان والخارج، أن الحزب سيظل موحداً ملتزماً الخط الثوري الذي رسمه له الزعيم نقد. كذلك أكدت اللجنة المركزية أن إرادة الحزب ستنفذ عبر آليات الديموقراطية والمؤسسية والقيادة الجماعية التي نص عليها دستور الحزب. إلاّ أن اشتراك معظم الأحزاب السودانية في خاصية ارتباطها بشخصية القائد التاريخي، لم تبدد المخاوف على وحدة الحزب الشيوعي وقدرته على الاستمرار، ولا سيما أن سكرتيره الراحل قضى أكثر من 40 عاماً في منصبه. وهو ما يذهب باتجاهه أيضاً المحلل السياسي كمال الجزولي، مشيراً إلى أن سكرتير الحزب الشيوعي الراحل لم يترك فقط إرثاً فكرياً عميقاً في ما يتعلق بالقضايا السياسية التي تجابه بلاده، وإنما قد ترك أيضاً ميراثاً سيجعل الأمر في حاجة ماسة إلى قدر كبير من التأمل والتفكير من جانب الحزب الشيوعي، بخاصةً في ما يتصل بأساليب القيادة ومناهج الحلول للمشكلات الكثيرة التي تجابه الحزب اليساري والحركة السياسية السودانية بمجملها. وأضاف الجزولي لـ«الأخبار» كانت لنقد طرقه الخاصة في التفكير، والمناهج التي ارتبطت بشخصيته، داعياً قيادة الحزب الشيوعي إلى أن تتأمل في ذلك الإرث، ومطالباً من سيخلف السكرتير الراحل بأن يسعى إلى إدراك هذه الأساليب والمناهج. كذلك، أبدى الجزولي اقتناعاً بأن الكثير من الزملاء وتلاميذ الراحل على وعي بهذه المسألة وسيحرصون على المضي بحزبهم العريق إلى آفاق أرحب ولن يكون هنالك تراجع في مسيرة الشيوعي.