الخرطوم | لطالما أبدت الحكومة السودانية الكثير من اللامبالاة تجاه العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الإدارة الأميركية عليها، مؤكدةً أن تلك العقوبات لن تؤثر على دوران عجلة الاقتصاد المحلي. غير أن يد عقوبات واشنطن تجاوزت هذه المرة النواحي الاقتصادية لتدخل مباشرةً في الجوانب السياسية، مسببةً تقديم وزير الصناعة السوداني عبد الوهاب محمد عثمان استقالته إلى الرئيس عمر البشير. أما مسببات تلك الاستقالة، التي تُعد الأولى من نوعها في السودان، فجاءت بعدما تبين أن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الادارة الأميركية على السودان منذ عام 1997 ستسبب تأجيل افتتاح مصنع خاص بإنتاج السكر كلّف الدولة أكثر من مليار دولار.
وبعدما كان من المقرر أن يفتتح المصنع أول من أمس، حالت العقوبات الأميركية دون ذلك، إذ إن التحديثات التي شملت المصنع لم تكتمل بعد أن رفضت الشركة الأميركية التي آلت إليها حقوق تشغيل المصنع من شركة هندية، أن تمد المصنع بمشغل الـ(السوفت وير) الخاص بفك شفرات الآلات التي تعمل إلكترونياً.
ووفق مصادر مطّلعة تحدثت إلى «الأخبار»، فإن جدالاً نشب بين وزير الصناعة ووزير البترول عوض الجاز، عندما سأله الأخير عن آخر الاستعدادات قبل يوم من افتتاح المصنع، ليفاجأ الجميع بأن هناك عقبة تشغيلية تحول دون أن تتحرك ماكينات المصنع. فلم يكن هناك من مخرج أمام وزير الاقتصاد إلاّ الدفع باستقالته، بعدما سبّب حرجاً رسمياً وشعبياً لبلاده أمام أكثر من 56 دولة مدعوة إلى حفل افتتاح المصنع الذي كانت الحكومة السودانية تعقد الكثير من الآمال عليه لسد الفجوة الاقتصادية التي سبّبها خروج عائدات النفط من الموازنة العامة، على اعتبار أن سلعة السكر من أكثر السلع الاستهلاكية التي يعاني المواطن البسيط من الزيادة المطردة في أسعارها، خاصة أن معظم الاستهلاك المحلي للسكر يستورد من الخارج.
غير أن المفاجأة الكبرى كانت حينما رفض الرئيس عمر البشير طلب عثمان. فقد سبق التعميم الرئاسي الرافض للاستقالة تعميم آخر صادر عن جهاز الأمن هذه المرة، وموجه لكل الصحف في الخرطوم يمنع فيه نشر خبر الاستقالة التي كانت قد عمّمت على الدور الصحافية في شكل بيان صادر من الوزير المستقيل. وكان من ضمن التوجيهات الأمنية انتظار ما سيخرج من المكتب الصحافي للبشير في القصر الجمهوري، الذي خرج يحمل في طياته خبراً مفاده رفض الرئيس لطلب الاستقالة، وفي الوقت ذاته تأليف لجنة تحقيق لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى عدم افتتاح المصنع في الموعد المحدد له.
وفيما يرى متابعون في تقديم وزير الصناعة لاستقالته خطوة إيجابية في طريق الممارسة الديموقراطية، فإن اعتقاداً واسعاً يسود بأن الرفض الذي قوبلت به رغبة الوزير ليس لأن المسؤولية لا تقع على عاتقه، بل لأن مؤسسة الرئاسة أرادت إرسال رسالة تحدّ أخرى الى الإدارة الأميركية بأن عقوباتها لن تؤثر عليها، ولن تسبّب أي نوع من البلبلة في سياستها الداخلية.
وفي السياق، يرى الخبير الاقتصادي محمد ابراهيم كبج، أن عدم التزام الحكومة بوقف الحرب في جنوب كردفان والنيل الازرق أدى الى تجديد ادارة أوباما في تشرين الثاني الماضي العقوبات الاقتصادية على السودان، لافتاً إلى أن تجديد العقوبات يرتبط في كثير من الأحيان بمواقفها السلبية من قضايا الحرب والسلام. كذلك أوضح لـ«الأخبار» أن استهتار الحكومة يدخلها في مثل هذه المواقف المحرجة، قبل أن يؤكد إيجابية ثقافة الاستقالة التي قدمها وزير الصناعة، داعياً بقية الوزراء إلى أن يحذوا حذوه.