الجزائر | يوارى في الثرى، اليوم، جثمان الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بله (95 عاماً) في مقبرة العالية في الضاحية الشرقية لمدينة الجزائر قرب أضرحة الأمير عبد القادر وهواري بومدين ومحمد بوضياف. وينطلق الموكب الجنائزي من قصر الشعب في وسط المدينة، حيث حكم الفقيد الجزائر لثلاث سنوات بين عامي 1962 و 1965، في أول فترة رئاسية للجزائر المستقلة، مروراً بأكبر الشوارع إلى المقبرة، التي تقع على نحو ثمانية كيلومترات من منطلق الموكب.
وقد فتح بيت بن بلّه، في منطقة بارادو، على مرتفعات المدينة، أبوابه لاستقبال المعزين منذ إعلان الوفاة مساء أول من أمس، بحيث توافد عليه الآلاف من النساء والرجال، الذين ينتمون إلى مختلف فئات الشعب، بينهم مسؤولون ورجال الثقافة والفكر والسياسة والإعلام والفنون وعامة الناس، فيما قرّرت الرئاسة فتح قصر الشعب أمام كل الجزائريين الذين يريدون إلقاء النظرة الأخيرة على رئيسهم من صباح الجمعة حتى الظهر، موعد التشييع، وسط أجواء الحداد الرسمي التي تدوم ثمانية أيام بدءاً من تاريخ الوفاة.
وتدفقت الجموع من مختلف ولايات القطر البالغ عددها 48 ولاية، ومنهم من قدم من ولايات تمنراست واليزي وأدرار البعيدة التي تقع على مسافة ألفي كيلومتر من العاصمة، لحضور تشييع بن بله إلى مثواه الأخير. وقد قطعت قنوات التلفزيون والإذاعات المركزية والمحلية برامجها العادية، وألغت كل مظاهر الفرح، وخصصت فقرات للتذكير بتاريخ الرجل الطويل في الكفاح التحرري والسنوات التي قضاها على رأس البلاد في أصعب فترة مرت بها، وهي بداية بناء الدولة من الصفر بعد رحيل الاحتلال الفرنسي.
كذلك نُظمت ندوات ومحاضرات في كل الولايات بمبادرة من أحزاب وجمعيات ومنظمات وشخصيات تاريخية، عادت في نقاشها إلى حقبة الكفاح الوطني ضد الاستعمار ودور بن بله ورفاقه من قيادات التنظيمات السياسية والمسلّحة فيه. وخصصت الصحف مساحات واسعة للتذكير بتاريخ الفقيد، حين كان مناضلاً في الحركة الوطنية في الأربعينيات ودوره خلال ثورة التحرير ثم سلوكه وهو رئيس للجمهورية. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تبادل الآلاف من الجزائريين الرأي بخصوص موقع بن بله ودوره.
وبما أنه كان هناك إجماع على أنه ثوري من الطراز الأول في فترة الكفاح ضد الاستعمار، ساد الاختلاف بشأن فترة حكمه التي وصفها الكثيرون بالقاسية، وبأن آثارها امتدت حتى الآن في شكل تصلب الرأي السياسي والحكم بالقبضة الحديدية وإقصاء الخصوم بشتى الوسائل. وفي معرض انتقاده، ذكّر كثيرون بأن بن بله هو من أعدم العقيد محمد شعباني، أصغر عقيد في ثورة الجزائر (24 عاماً)، وقائد تحرير تندوف من الغزو المغربي عام 1963، وهو أيضاً من حكم بالإعدام على رفيقه في الكفاح حسين آيت أحمد، الذي اعتقل معه في حادثة الطائرة المختطفة عام 1956، وهو من قرر نفي رفيقه الآخر في ذات الحادثة محمد بوضياف، رئيس المجموعة التي فجرت الثورة في الفاتح في تشرين الثاني 1954. ونُسب إليه أيضاً قرار نفي الشيخ البشير الإبراهيمي كبير العلماء المسلمين الجزائريين عند الاستقلال، إلى القاهرة إلى أن وافته المنية فيها.
في المقابل، دافع آخرون عن بن بله، مشيرين إلى أن الفترة التي حكم فيها كانت حرجة جداً، وكانت تهدد بالسقوط في فوضى عارمة بعدما صار البلد بلا نظام يحكمه، بسبب رحيل إدارة الاحتلال، فيما لم تنبثق قيادة جزائرية متمرسة وقادرة على ضبط الأمن. لقد تحولت وفاة الرئيس أحمد بن بله إلى منتدى تاريخي وفكري واسع، طرح فيه كل فريق آراءه من خلال الحكم للرجل أو عليه. وهي أول مرة يحدث فيها مثل هذا الاندفاع نحو استحضار تفاصيل التاريخ في مناسبة وفاة مسؤول كبير، وإن كان رئيساً. الأمر هذه المرة يتعلق بأكبر رؤساء الجزائر سناً وأكثرهم حضوراً وإثارة للجدل.