الحقيقة التي لا جدال حولها، أن منشأ الضجة الذي تركته جريمة مدينة الخليل على الساحتين السياسية والإعلامية في إسرائيل، لا يعود إلى أصل ارتكابها، بل لكونها موثَّقة. فقد أحرجت صور الجندي القاتل، ابتداء، وهو يعدم جريحًا فلسطينياً ممدداً على الأرض، المؤسسة الرسمية، لكنها عادت وخضعت للرأي العام الذي تضامن معه، فخفضت التهمة وأفرجت عنه بقيود.
والحقيقة الموازية أن تاريخ الجرائم الإسرائيلية يفوق جريمة الجندي بشاعة وإجراما، ولكن الأخيرة تميزت بالتوثيق والخطاب والسياق. فعادة ما يكون لهذه العناصر الكلمة الفصل في تحديد وتيرة تفاعل المحيط مع هذه الجرائم. مع ذلك، فقد ألقى إعدام الشهيد الفلسطيني عبد الفتاح الشريف، بظلاله على أعداد لا تحصى من الجرائم التي ارتكبها العدو وأجهزته الأمنية، بناء على تخطيط مسبّق وتعليمات من القيادتين السياسية والعسكرية.
تأتي الجريمة الإسرائيلية المتجددة في ذروة السجال حول مشروعية وجدوى فتح النار الذي يعتمده الجنود بناء على تعليمات القيادة العليا. على مستوى المشروعية، تتعرض إسرائيل لبعض الانتقادات الخجولة في العالم، لكن من دون أي تأثير فعَّال في قرارها. وعلى مستوى الجدوى، يوجد نقاش في الساحة الإسرائيلية حول فعالية هذه الإجراءات في مواجهة الانتفاضة وأسلوبها. وترى إسرائيل أنها تتعرض لحملة فلسطينية ودولية مركزة على هذا النمط من القتل المتعمد الذي يبرر للجندي التذرع بأي حركة أو نظرة، كي يدَّعي أنه ظن أن القتيل كان يخطط أو يستعد لمهاجمته أو أحد زملائه.
مع ذلك، ليست كل وجوه هذا الحدث ومفاعيله سلبية في الساحتين السياسية والإعلامية الداخلية والخارجية. بل له وجوه أخرى تخدم دعاية إسرائيل في مواجهة أعدائها. بالطبع، لا يدور الحديث عن سجال مفتعل، بل عن سجال يوظف في خدمة السياسة الدعائية. فتظهير البعد القانوني واعتراض القيادات والحديث عن أن الكلمة الأخيرة للقضاء، توحي كأن جرائم العدو السابقة، بل اللاحقة، تملك قدراً من المشروعية القانونية والأخلاقية. والدليل الذي يمكن لإسرائيل تسويقه أنه عندما جرى الاشتباه بارتكاب أحد جنودها عملية قتل غير مبررة لأحد الفلسطينيين، فإن إسرائيل قامت ولم تقعد!
هكذا يخدم هذا السجال إسرائيل عبر تقديم نفسها كدولة قانون، حتى عندما يتعلق الأمر بالصراع مع أعدائها؛ وهو ما حاول إظهاره رئيس أركان الجيش غادي ايزنكوت عندما قال في رسالته المعممة على الجنود، إن «سلطات الجيش.. ستتعامل بصرامة مع جنود أو ضباط يتجاوزون المعايير العملياتية والأخلاقية التي يتّبعها الجيش في المناطق».
أيضاً، مكّن السجال السياسي والإعلامي حول هذه الجريمة، الآلة الدعائية الإسرائيلية من أن توحي بأن الجرائم الأخرى التي ارتكبها جيشها ليست سوى وجهات نظر واتهامات، وفي أقصى الأحوال جرائم أفراد خالفوا تعليمات قادتهم. مع ذلك، ينبغي القول إنه ليس كل القادة السياسيين والإعلاميين وصولا إلى الرأي العام الإسرائيلي يعزفون على الوتر نفسه، بل تدخل مجموعة من العوامل السياسية والحزبية والشخصانية، إضافة إلى العنصرية ومجاراة الرأي العام في بلورة مواقفهم.
على هذه الخلفية، تندرج السجالات داخل الحكومة وخارجها في الموقف من الجندي القاتل والتحقيق معه. أيضا، فقد حقق الرأي العام المتطرف انتصارا مدوياً، أولاً عبر إجبار رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، على التراجع عن مواقفه التي أطلقها ابتداء خدمة للدعاية الإسرائيلية، في مقاربة مثل هذه الجرائم، ثم ذهابه نحو أقصى اليمين عندما تعاطف مع الجنود الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ مواقف تحت «ضغط الأحداث». وثانيا، عبر الضغط على المؤسسة القضائية، التي لم تكتف بتخفيض التهمة إلى القتل غير المتعمد، وتحويل الجندي إلى «الاعتقال المفتوح» في القاعدة العسكرية التي يخدم فيها.
في مقابل ذلك، أعلن المتحدث العسكري باسم «كتائب القسام»، الجناح المسلح لحركة «حماس»، أبو عبيدة، رداً على تصريح نتنياهو عن «حدوث تطور مهم» بشأن الأسرى الإسرائيليين لدى الكتائب، أنه «لا توجد أي اتصالات أو مفاوضات بشأن الجنود الأربعة، ولن يحصل العدو على معلومات عن مصيرهم سوى بدفع أثمان قبل وبعد المفاوضات». وأضاف أبو عبيدة، الذي رفعت خلفه صور أربعة جنود أسرى، أن «نتنياهو يكذب على شعبه ويضلل جمهوره ويمارس الخداع مع ذوي جنوده الأسرى».
وبينما حاول الإعلام العبري التقليل من إعلان «القسام»، قال معلقون إسرائيليون إنها محاولة لتحريض الرأي العام الإسرائيلي ضد نتنياهو.