في شبابه الذي لم ينقض بعد، كان ينتظر أي إعلان عن نشاط في يوم الأرض ليكون أول المشاركين وأكثرهم حماسة وشغفاً. لكنه منذ انطلاقة انتفاضة السكاكين، بدا أكبر سناً، بل بدا كأنّه شاخ وهرم... شيء من المرارة يعلو وجهه كلما سمع عن عملية طعن أو دهس. كان إحساسه بالعجز يتخطى سنواته الثلاثين. وانتظاره السنوي لإحياء يوم الأرض انقطع قبل حلوله. لم يعد "مناضلاً" كما كان يرى نفسه، بل أصبح يرى في كل فعل لا يترك قتيلاً صهيونياً على الأرض مضيعة للوقت وكذباً على الذات. تجوله المسائي في أزقة المخيم لم يعد عادة يومية كما كان في السابق. فهو لم يعد يرى في هذا المكان إلا أسواراً ارتفعت في البدء لتحجب فلسطين، واليوم هي تحجب عن رئتيه ترف الهواء. مدينته الصغيرة التي كان يعتبرها محطة على طريق العودة أضحت بفعل انتفاضة يعجز عن الالتحاق بها، سجناً كبيراً وقيوداً. كان اختناقه يغرقه في صمت موجع. صمت لا يشبه عمره ولا يناسب حماسته التي كانت محط تعليقات كثيرة من الأصحاب. بدا كأن هزيمة ما استقرت شحوباً في حماسته وأضافت لسنواته عقدين أو ثلاثة من عمر لم يمر. أحياناً، حين يعلو منسوب الغضب في أفكاره، يتسرب بعضه على شكل سخرية. سخرية تلون كل شيء بالأسود. مفاتيح البيوت العتيقة والتنظيمات المتناحرة، ثوب جدته المطرز واتفاقات الهدنة، الطوق الأمني حول المخيم ومزاج معبر رفح. سخريته الموجوعة كانت في لحظات تسطو على كل شيء، تسرق من جاره فرح نجاح ثلاث عمليات طعن متزامنة وترمي على كتف والده ثقل ابتسامة والد أشرقت أثناء حديثه عن كريمته الشهيدة. هو لم يكن يوماً على هذا القدر من الاختناق. فيوم تخرج في الجامعة وما وجد في سوق العمل العنصري فرصة تناسب مجاله، ضاحكاً التحق بوالده في سوق الخضر. ويوم رفضه والد حبيبته خطيباً لابنته، خرج من عندهم ضاحكاً شاتماً ومشجعاً من كان سيصبح لولا الجهل حماه على موقفه. لم يسمح للخيبة بأن تحتل عينيه. فمناضل مثله لا تتمكن منه خيبة في الحب أو في العمل. لكن إحساسه بالعجز عن طعن صهيوني، كان كفيلاً بإعادة كل خيبات عمره الى واجهة عقله. هو طبعاً يحسد أبناء الأرض المقيمين فيها على نعمة الاختيار بين أن ترفع سكينك في عين صهيوني وبين حرق الآليات الإسرائيلية حين تجول في أحياء القدس. هو يحسد الشهداء على عظمة أن يكتبوا وصاياهم الفتية قبل الذهاب الى الشهادة أو الاعتقال. كان يقرأ ما ينشر من هذه الوصايا بحاجبين معقودين وشفاه متشنجة. كان ينظر الى بساطة ما يقولون فيتذكر خطابات الإنشاء المتقنة التي ترافق ندوات ومحاضرات الشباب حول يوم الأرض. كان ينظر الى كم الحرية الهائل الذي يعلو صفحات تلك الوصايا فينهمر منه الملل من بيانات التنظيمات الفلسطينية على شكل شتائم يكاد يجاهر بها لولا حرصه الشديد على ألا يضطر الى خوض نقاش مع من قد تسوّل له نفسه الدفاع عن تنظيم ما. هو لا يريد أن يناقش أحداً ولا حتى نفسه.
اقترب يوم الأرض. تتوالى الدعوات على هاتفه وعلى بريده الإلكتروني. ولا يكلف نفسه عناء الرد ولا حتى التظاهر بعدم قراءتها. أحياناً، كان يشفق على مرسلها. أو يحسده على حماسته أو قناعاته بأن كل هذه الأنشطة قد تغير شيئاً.
اقترب يوم الأرض، وما زاده اقترابه إلا كفراً بكل عمل لا تبكي بعده عائلة مستوطنة على دم أحد أفرادها. اقترب وما زاده الاقتراب إلا بعداً عن أرض ينتمي إليها، ويود أن يعايدها في يومها كما تستحق، لا كما يستطيع.