أعلنت المرأة الواقفة عند مدخل المسجد الكبير في المدينة: «ما من مسلمين في بئر السبع». هذه المرأة موظفة للإشراف على معرض بعنوان «تاريخ بئر السبع، ما بين عامي 1900 و2011»، الذي يُقام في قاعة الصلاة في المسجد. المسجد الكبير هو المسجد الوحيد في بئر السبع، لكن لم تُقَم فيه أي صلاة منذ عام 1948، على الرغم من أنّ هذه المدينة تضم 8 آلاف مسلم. بُنيَ هذا المسجد عام 1906 على أيدي العثمانيين بدعم من قبائل بدوية محلية نافذة في صحراء النقب.
إلى جانب بعض الحلي الرخيصة والبنادق القديمة، يتضمن المعرض جدولاً زمنياً يتألف من مجموعة من الصور التي تبدأ من عام 1900، تاريخ « تأسيس» بئر السبع من قبل الإمبراطورية العثمانية. طبعاً بدأ تاريخ المدينة قبل وقت طويل من وضع الإمبراطورية أساسات المباني الحجرية الأولى. يشير اسم بير شبعا بالعبرية أو بئر السبع بالعربية إلى موقع المدينة الذي يسمح بالوصول بسهولة إلى خزانات المياه الجوفية التي تتدفق من تلال الخليل. وقد استُعمِل مصدر المياه الجاهز هذا على مدى آلاف السنين في العمليات الزراعية.
ولبدء الجدول الزمني المؤلف من الصور في عام 1900 دلالة مهمة. يتصادف هذا التاريخ مع بداية الجهود المبذولة من قبل القوة الخارجية الحاكمة، سواء كانت عثمانية أو بريطانية أو إسرائيلية، في سبيل «إخضاع» قبائل النقب البدوية. الثقافة البدوية كانت تعتمد، من بين أشياء أخرى، على التجارة غير المنظمة عبر الحدود. وبما أنّ الحدود العثمانية مع مصر كانت مهددة بالاحتلال البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر، برزت حاجة الإمبراطورية العثمانية الناشئة إلى تأكيد سلطتها.
أراد العثمانيون دمج الشعوب البدوية في حكومتهم من خلال جعل هؤلاء المقيمين العابرين يستقرون استقراراً دائماً بالقرب من الحدود المصرية والحرص على ولائهم للإمبراطورية. فاشترت الحكومة مساحة 1.9 كيلومتر مربّع من بئر السبع من عشيرة آل ازازما، وهي قبيلة نافذة في المنطقة، وشجعت آخرين على الاستقرار هناك عبر تقديم قطع أرض صغيرة لهم.
يروي المعرض قصة «التقدّم». تُظهر الصور الأولى بدواً يعيشون في خيم يحيّون الأتراك الذين يعتلون صهوة الجياد. ومنذ تلك اللحظة، كما تظهر الصور المعروضة، انطلقت مسيرة التنمية. ظهرت مبانٍ مدرسية رائعة للفتيان والفتيات. بدأ الأطباء البريطانيون بتقديم الطب الحديث، وعام 1910 وصلت المطبعة الأولى إلى المدينة. خلال أقل من عقدين، تحوّلت هذه المنطقة من صحراء جرداء إلى مدينة عامرة تشتمل على حدائق غنّاء، محطات لسكك الحديد ومبانٍ حديثة. يرسم تاريخ المدينة مسيرة طويلة نحو الحداثة، ويصف الفترات الانتقالية من الحكم العثماني فالبريطاني إلى الإسرائيلي بأنّها سلسة. يتمحور هذا المعرض حول المدينة، بمبانيها ومؤسساتها، المصوّرة كبطلٍ أبدي. سكّانها غير مدينيين إن لم نقل إنّهم يعوقون تقدّم المدينة. الأشياء التي تطوّرت في بئر السبع منذ عام 1900 هي المباني والمطاعم والمؤسسات الثقافية والحكومية. امتدّت جذور هذا التطور محل الجذور التي زرعها السكان الأصليون.
لكنّ هناك قصصاً أخرى تروى عن بئر السبع منذ عام 1900. فنسبة الفقر بين البدو بدأت ترتفع عندما سيطر عليها البريطانيون بعد الحرب العالمية الأولى. تتفاوت التقديرات قليلاً بشأن عدد البدو الذين طردوا من النقب خلال الاحتلال الإسرائيلي للأرض عام 1948، لكن لم يبقَ فيها إلا 12 إلى 16 في المئة فقط من سكانها الأصليين.
اليوم 31 في المئة من سكان النقب هم من الفلسطينيين البدو، حوالى 192 ألف نسمة، وقد باتوا الآن مواطنين في دولة إسرائيل. يعيش 80 ألف شخص منهم تقريباً في قرى «غير معترف بها»، بمعنى أنّها محرومة من الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء والتعليم.
بدأت المعركة القانونية لإعادة إحياء المسجد الكبير في بئر السبع بصفته مكان عبادة عام 2001، وانتهت في حزيران الماضي في المحكمة العليا الإسرائيلية بحكمٍ خيّب آمال المقيمين المسلمين بعمق. تبقى الصلاة في المسجد محظورة، لكنه سيُحوَّل إلى متحفٍ للحضارة الإسلاميّة (وليس متحفاً عاماً). لكن يبدو أنّ البلدية التي ناضلت بشدّة ضد قرار المحكمة قد تجاهلت الحكم. يمشي نوري العقبي في أرجاء المعرض ويتوقّف أمام تمثال عرض بلاستيكي يرتدي بزّة عسكرية بريطانية وحول كتفه بندقية. يصفّق بيديه قائلاً «يُفترض أن يكون هذا المكان للصلاة فقط!». يأتي نوري، سبعين عاماً، من بلدة العراقيب البدوية غير المعترف بها لكنه يعيش الآن في اللّد حيث يعمل كميكانيكي سيارات. جاء والده وجدّه إلى المسجد الكبير للصلاة قبل النكبة عام 1948. كان نوري يناضل من أجل الحق في استعمال المسجد للغرض الذي بني من أجله منذ عقود. يذكر نوري عندما أتى إلى هنا عام 1974 مع 12 شخصاً آخرين إلى المسجد المغلق لتحدّي الحظر الذي تفرضه المدينة على الصلاة هناك. اكتشفت الشرطة أنهم أتوا للصلاة هناك وزجّتهم في سجن المدينة.
في شهر آذار من عام 2000، كتب نوري على باب المسجد «هذا مسجد بئر السبع». وقد سبّب هذا التصرف اعتقاله. امتدّت قضيته في المحكمة على خمس سنوات، وطُلب منه في النهاية دفع 1000 شيكل إسرائيلي (270 دولاراً أميركياً) وإمضاء سبعة أيام في السجن بتهمة التخريب. وفيما يمشي نوري العقبي في أرجاء المعرض وهو يدرس الصور بانتباه، كما فعل مرّات عدة في السابق، يتضح له بوضوح كبير أنّه ربما جزء من ماضي بئر السبع لكن ليس من مستقبلها.



مسلمون في السوق

يقع سوق بئر السبع على مسافة بضعة كيلومترات من المسجد، وهو عبارة عن مجموعة من الحجيرات المستطيلة الشكل التي تضم بائعين يبيعون كل شيء، من الفاكهة إلى ألعاب الأولاد. إنّه مركز التجارة الرئيسي الذي يقصده سكان النقب من العرب الذين يأتون إلى بئر السبع للتبضّع والعمل والتجوال. استأجر رجل رفض الكشف عن اسمه حجرتين لإفساح المجال للصلاة أمام المواطنين المسلمين الذين يسكنون المدينة. أزال هذا الأخير الجدار الفاصل بين الحجرتين ومدّ سجادات للصلاة لونها زهري غامق في مساحة لا يتعدى عرضها مترين وطولها أربعة أمتار.
يأتي إمام، خمس مرات في اليوم، إلى هنا لإقامة الأذان في مدينة خالية من أي مئذنة يُسمَح للمؤذن باعتلائها. هناك عددٌ كبير من المسلمين في بئر السبع، لكن ليس لدى هؤلاء مكانٌ ليصلوا فيه. القصة الخفية التي تسردها الصور قصة طردٍ مستمر.