كالإبرة التي نفّست بالون الهواء المضغوط، جاء مؤتمر اسطنبول السبت الفائت ليحوّل الأجواء الصحافية الاميركية حول موضوع الأزمة النووية الايرانية الى شبه تفاؤلية، وليبدّل الخوف من حرب وشيكة بالترقّب الحذر وليحوّل الصراخ الداعي الى هجوم عسكري فوري على إيران، أنيناً.

هكذا سرّب البيت الأبيض بعيد المؤتمر، الى بعض المؤسسات الاعلامية، أجواءً مريحة حول ما جرى من محادثات حول النووي الايراني من دون أن يكشف على ما اتفق عليه فعلياً، فانبرت الأقلام التي كانت تدعو الى الحلول السلمية مع إيران للتبشير بالتوصل الى صيغة مرجوّة تريح الدول المعنية والاسواق النفطية والاقتصاد من دون أن تبدد شكوكها حول التزام إيران بالشروط الغربية.
أما المحافظون الجدد الذين لم يكلّوا على مدى سنوات (وخصوصاً خلال الاشهر الاخيرة الماضية) من قرع طبول الحرب على إيران فقد استشاطوا غضباً وعبّروا عن قلق عميق حيال سلوك الادارة الاميركية في القضية عموماً وخلال مؤتمر اسطنبول خصوصاً.
«كأنهم كبسوا على زرّ تنويم منبّه الحرب قليلاً»، هكذا وصف البعض ما جرى في مؤتمر اسطنبول، والبعض الآخر تحدّث بالأرقام عن انخفاض نسبة ترجيح المواجهة العسكرية مع إيران وعن مؤشرات «المنحى السلمي» للقضية، فيما وصف آخرون ما جرى وما سيجري بـ«المفاوضات المتقنة التحضير»... والكل أجمعوا على أرجحية التوصل الى «اتفاق ما» بين الغرب وإيران اذا التزم الاطراف بخطوات التفاوض وفنونه.
منطلقاً من تحقيق مؤشر الأسهم في إيران رقماً قياسياً في الزيادة بعد يوم من بدء المحادثات حول النووي الايراني، أكّد ديفيد إغناتيوس في «ذي واشنطن بوست» أن «بوادر اتفاق تلوح في الافق». وأضاف أن إيران «تطبّق سيناريو خروج تدريجي يحفظ ماء الوجه، من برنامجها النووي». إغناتيوس لا يتردد بالتنبّؤ حتى بشكل الاتفاق الذي سيحصل بين إيران والغرب في المرحلة المقبلة من المفاوضات «إذ إن معالمه باتت واضحة جداً بعد مؤتمر اسطنبول»، فيقول إن إيران ستوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة ٢٠٪ وستغلق منشأة فوردو النووية كما ستصدّر احتياط اليورانيوم المخضب بدرجة عالية للاستخدام لأغراض طبية. إغناتيوس يشير الى أن الايرانيين لن يروا في ذلك «تنازلاً للغرب» بل «تدابير لبناء الثقة» معه بهدف إثباث جدية كلام المرشد الاعلى علي خامنئي الأخير بتوصيفه انتاج القنابل النووية بـ «الإثم العظيم».
في المقابل، لن يرى الغرب في تخفيف العقوبات على إيران «تراجعاً» بل سيصفونه بأنه «تبدل». وفيما يؤدي رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو دوره «المتوقع» بصدّ ما يجري والابقاء على التهديد بشن حرب على ايران في حال لم تتقدم المفاوضات، كما يقول إغناتيوس، فإن النظام الايراني يعمل على تهيئة الأجواء في الداخل لخبر إبرام اتفاق مع الغرب يحدّ من تخصيب اليورانيوم لكنه يبقي على حقهم فيه.
تفاؤل آخر حول تراجع خيار المواجهة العسكرية بعد مؤتمر اسطنبول، عبّرت عنه مجلة «ذي أتلانتيك»، وهذه المرة بالأرقام، إذ بيّنت الاحصائيات ونتائج الدراسات التي قامت بها أن أرجحية هجوم أميركي أو إسرائيلي على إيران خلال العام المقبل تراجعت الى ٤٢٪، بعدما وصلت الى ٤٨٪ الشهر الماضي. دراسات «ذي أتلانتيك» النسبية تعتمد على قراءات عدد من الصحافيين والباحثين والاكاديميين المتابعين للاوضاع والسياسات الخارجية، ومن بين المؤشرات التي ذكرها هؤلاء، تسلّم شاؤول موفاز قيادة «كديما»، أبرز أحزاب المعارضة الاسرائيلية، وتصريحه بأن «الخطر الأكبر بالنسبة لإسرائيل ليس النووي الايراني»، بل تزايد عدد الفلسطينيين الذين يعيشون في الاراضي الخاضعة للسيطرة الاسرائيلية.
إشارات اخرى تحدّث عنها طوني كارون في مجلة «تايم» الاميركية، وهي تشير الى «اتفاق الاطراف في محادثات اسطنبول على إبقاء نافذة الدبلوماسية مفتوحة لفترة أطول، «ما يعني أن الطرفين الاساسيين أعطيا ضمانات كافية لنقل المحادثات الى جولة ثانية في بغداد الشهر المقبل». لكن كارون يلحظ الكثير من المعوقات التي قد تحول دون إنجاح الجولة الثانية والتوصل الى اتفاق وشيك، ومنها عدم اتفاق جميع الاطراف الاوروبية على صيغة موحدة للحل، إضافة الى مطالبة إيران خفض العقوبات عليها مقابل وقف التخصيب، وذلك في فترة انتخابات رئاسية حامية في الولايات المتحدة وضع فيها الجمهوريون إيران في صلب حملاتهم الانتخابية. الكاتب يختم بالقول إن المؤشر الأصدق حول نجاح الدبلوماسية مع إيران أو فشلها يبقى أسعار النفط، لذا «من الجيد مراقبتها في الاسابيع المقبلة» لاستنباط الاجواء.
مؤشر أسعار النفط ظهر على رأس اللائحة المؤلفة من ٦ نقاط، التي وضعها مارك هيبس وأرييل ليفيت وجورج بيركوفيتش، في مقال في صحيفة «نيويورك تايمز»، محددين الاشارات التي تظهر مدى نجاح المحادثات مع إيران. الكتّاب يشرحون أن أي خطوة إيرانية تلي المفاوضات لا ترقى الى مستوى وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية ومتابعة التخصيب خارج منشأة ناتانز، من شأنه أن يفشل المحادثات. كذلك، في حال رفضت الاطراف الأخرى عدم تطبيق العقوبات المرتقبة الجديدة على إيران.
الصحافيون يضيفون مؤشرات أخرى مثل إجراء محادثات ثنائية بين إيران والولايات المتحدة، والفترة الزمنية التي تفصل بين الجولات، فكلما قصرت كلما دلّ ذلك على التوصل الى نتائج ملموسة...

هذا ما يجب أن يقلقنا

«محادثات سعيدة في اسطنبول؟ هذا ما يجب أن نقلق بشأنه» يقول إليوت أبرامز في مقال غاضب على موقع «مجلس العلاقات الخارجية». أبرامز الذي طالما حرّض وشجّع على قرار شن هجوم إسرائيلي ــ أميركي على إيران بدا غاضباً من كل ما جرى في مؤتمر اسطنبول. فهو ممتعض من الكلام عن «محادثات بنّاءة ومفيدة» بعيد مؤتمر اسطنبول، وحانق على تسريبات البيت الابيض الغامضة للصحف الاميركية بشأن نتائج المؤتمر التي لم تؤد حسبهم سوى الى الدعوة لجولة ثانية في بغداد. أبرامز انتقد قيام إيران باختيار مكان انعقاد الجولة الثانية، وطلب مندوبة الخارجية الاميركية للاجتماع بالمبعوث الايراني وليس العكس! أبرامز يستنتج أن ما نجح فيه مؤتمر اسطنبول هو منح المزيد من الوقت لإيران للاستمرار بتخضيب اليورانيوم والاتفاق على تصعيب الضربة الاسرائيلية على إيران. الكاتب يعلّق سلباً أيضاً على مدى حماسة واستبسال الادارة الاميركية لإنجاح تلك المحادثات لدرجة تبدو فيها حريصة على إنجاحها أكثر من الايرانيين أنفسهم.
سايمون هاندرسون في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى» يرى أنه مهما تقدمت المساعي الدبلوماسية في مؤتمر اسطنبول فهي لن تنجح بخلق الثقة المتبادلة بين الاطراف. علماً أن هذه الثقة هي أمر اساسي للتوصل الى اتفاق، والا وفي غياب أي تقدم، ستستمر إيران ببرامجها السرية وستقترب أكثر فأكثر من صنع القنابل النووية.
أما سوزان مالوني في «فورين أفيرز»، فهي تحسم أن المفاوضات ستبوء بالفشل، لكنها تقول «من الجيد أن تحاول واشنطن جهدها في هذا المجال، لأن ذلك سيسهل عليها الاقتناع لاحقاً بالطرق البديلة لحل النووي الايراني، وبينها خيار الهجمة العسكرية». أما في حال توصلت المفاوضات الى حل، فإن على واشنطن أن تتهيّأ جدياً لمواجهة سياستها اللامنطقية تجاه طهران، تضيف الكاتبة. مالوني تردف، العقوبات ستؤذي إيران لكنها لن تحث النظام الايراني الحالي على إحداث تغييرات تاريخية في سياسته الامنية.



الثورة الخضراء... أنقذينا

بعض المحللين، غير الراضين عن مسار التفاوض بين واشنطن وطهران، رفعوا ورقة المعارضة الايرانية وذكّروا بحقوق الانسان والثورة الخضراء. راي تاكيه، سأل في «نيويورك تايمز» عن الاستقرار الداخلي في إيران، وقال إن «تاريخ إيران كان حافلاً بالاضطرابات بسبب الصراع الدائم والمتواصل بين الحركات الاجتماعية التي تطالب بالتحرر والمحاسبة. لذا لم يكن من السهل فرض الانظمة الاستبدادية سلطتها بالقمع». تاكيه يستنتج أنه «على الرغم من مظاهر الاستقرار والتنظيم الزائفة، يواجه نظام رجال الدين في إيران أزمة عميقة في شرعيته (...) ولا يمكن التنبؤ اذا كانت الحركة الخضراء ستحيا مجدداً أم لا، لكن التاريخ يفترض وجود حركة اجتماعية ما مستعدة لمواجهة النظام الحالي».
أما باتريك كلوسن، فنبّه في «فورين بوليسي» من أن تعقد الادارة الاميركية اتفاقاً مع إيران متناسية السجل الايراني الاسود في حقوق الانسان. كلوسن، ينصح الادارة بدعم المعارضة الايرانية والحث على تفجير ثورة ما في إيران تطيح النظام الحالي كما فعلت الثورات العربية.