ضبيّة | وقفنا نشتري سندويش فلافل في أوّل المخيّم. مخيّم ليس ككل المخيّمات. لا حدود ظاهرة بين المخيّم ومحيطه، لا حبّاً بالفلسطينيين، ولا اندماجاً معهم.. فهل هو محو لهوية ضمن محيط أقوى؟ دخلت المخيّم الممتدّ على تلّة مواجهة لبيروت. بيوت صغيرة من طابق واحد، والشوارع كالجلول تتلوّى مع الجبل. أوّل خطوة في المخيّم ويرحّب بنا جدار عليه رسم لصليب مشطوب (القوات اللبنانية) ودائرة بداخلها مثلّث (حزب الأحرار) ميليشيا اليمين المسيحي التي اضطهدت (وما زالت) ونكّلت وارتكبت المجازر بالفلسطينيات والفلسطينيين.
حاجز البربارة ليس بعيداً من هنا. لا وجود للفصائل الفلسطينية في مخيّم ضبيه. لا سلاح بالطبع، ولكن.. لا قضية؟ مخيّم «مسالم»، ترضى عنه الميليشيا اليمينية المسيحية، في منطقة ذات أغلبية مسيحية.
دخلت عبر مفرق صغير إلى مبان مهجورة كانت مدرسة في ما مضى. الجدران مغطّاة برسوم للأطفال. أتوقّع ولو علماً صغيراً، أسود أبيض أخضر أحمر، بأية طريقة، أو كوفية هاربة في زاوية ما... لا شيء. هي رسومات لإدارة المدرسة، عن تلاميذ شقر يرقصون مع الراهبات. لا وجود لمكان أو إطار جغرافي - هو الأساس، في الأصل. مشيت أصوّر هذه الرسومات. ثم خلف الملعب الكبير وخلف الأشجار، في مساحة مقفرة يملؤها التراب الأحمر، على حائط جانبي، وجدت ضالّتي، وابتسمت. ندهت من معي ووقفنا نتفرّج: رسمت إحداهنّ أو أحدهم ما بدا لي تصوّراً شخصياً وحميماً. غرافيتي لحنظلة، لكن بقبّعة معاصرة وجينز وقميص فضفاض، يحمل علماً لفلسطين. وحيد، منسيّ ومخفي، وراء رسومات الإدارة الجامدة، يحمل حنظلة علمه.
نعود إلى الفلافل اللذيذة، نلتهمها بشراهة في ظلّ شرفة المحلّ. نتحدّث مع الناس ونصوّر ما حولنا. يظهر فجأة شاب بشعر طويل وقلادة حنظلة فضيّة. تبدأ «الأوامر» ويتصرّف كمالك للمكان وأهله: أطفئوا الكاميرا، احملوا أغراضكم و.. ارحلوا. من أنت؟ ما القصّة، نسأل. هو مسؤول اللجنة الأهلية هنا ونحن غير مرحّب بنا. أفسّر له بأننا على موعد مع شخص من مجمع الكنائس وأنّنا هنا بمعرفتهم وبأننا هنا للكتابة عن تاريخ المخيّم ولذا بدأنا ندردش مع الناس .. «كيف تسألين الناس؟ تسألين مين ما كان؟ بركي قالولك أشيا غلط ورسمولك صورة ما منيحة عن المخيّم؟ بدّك تعرفي عن المخيّم بتسألينا». قلت له بأن للناس الذيين يعيشون في هذا المخيم حقاً مماثلاً لحقّه في الكلام عن تجربتها. «فإن أردت، أسمع رأيك وقصصك وتحليلاتك، لكنك لن تمنعني من سماع قصص الناس».. هنا وقعت في أكبر غلطة. قلت له، بلغتي الخشبية الخارجة من الكتب «بدنا ننقل تجارب الناس، مش وجهة نظر السلطة». وهنا، انفجر الشاب يزبد ويرغي يريدنا خارج المخيّم. لم أنتبه لما فعلت. وبعد عدّة جمل تدلّ على أنه قبضاي، رددت عليه بمثلها اتّصل «بالشباب»، فاتصلت بأصدقاء نصحونا بأن نحتمي في مجمع الكنائس.
مشينا إلى المجمع معتقدين بأنهم هناك سينصفوننا، أنظر بطرف العين إلى الشاب و«جدّولته» تتنطط على ظهره من غيظه. واذ استقبلونا ليقولوا بأن الشاب من «عندهم». هكذا إذاً؟ الكنيسة تسيطر على «اللجنة الأهلية» بـ«زعران» فلسطينيين؟ يصل القبضاي إلى المركز. وبعد استكماله للمشادة الكلامية، بقّ البحصة. «شو خصّ السلطة؟ ليش بدّك تحكي عنها؟». ضربت على رأسي ألعن مفردات الكتب الغبية. عندما قلت «سلطة» وقصدت بالتعبير «مصدر القوة والحكم»، فهم منها ما يفهمه الجميع طبيعياً. فمصطلح السلطة = السلطة الفلسطينية. كان محمود عبّاس حاضراً في عراكنا بدون أن أدري.
1. بعدما فسّرنا له الموضوع واستوعبه قائلاً «آآآه، تقصدين «باور-أوثوريتي» (قوة-سلطة) قال بكل هدوء. «حسن، هي قصّة شخصية الآن، يقول. لا أريدكم في المخيّم. ممنوع تصوّروا هون». انتهى الأمر ومشينا لا نسمع سوى صوت خطواتنا وصرير أسناننا، نتوعّده بالعودة. أمتار قليلة ويرنّ التليفون. من ينتظرنا في السيارة يقول لنا بأن نلاقيه بسرعة أمام المدخل لأنه رأى «شباباً» يبحثون عنّا. نركض إلى السيارة. هل اتّصل الشاب الفلسطيني، مسؤول اللجنة الأهلية ليطلب من قوى الامر الواقع الحزبية التي «يرفع المخيم» شعاراتها، أن تطردنا؟
دخلنا المخيّم بفرضية أن الهوية الفلسطينية مقموعة هنا، وبأنها مستبدلة بهوية دينية مسيحية تحت ضغط ضرورة «الاندماج». كذلك تتعزّز هذه الهويّة، كما علمنا، عبر تدخّل فاضح للمؤسّسات غير الحكومية. ففي مخيّم ضبيه وجود قوي لحفنة منها ومن مؤسسات غير حكومية ذات توجّه ديني، تقدّم المعونات للعجائز ونشاطات «مخيّمات السلام» (مع من؟) وقد أصبحت جزءاً مهماً من المخيّم.
فبينما كانت الأحزاب السياسية أداة لتغيير المجتمعات وتحديد توجّهاتها وأهدافها، تمّ «تعقيم» هذه المجتمعات وإخراجها من العمل السياسي عبر تهديم الأحزاب الفاعلة. وبما أن الطبيعة لا يمكن أن تحوي فراغاً، فقد عُبئ الفراغ بشكل «لطيف» من أشكال سيطرة الإمبريالية عبر المؤسسات غير الحكومية. ففي مجتمع «غير مسيّس»، أصبحت هذه الجمعيّات مكاناً آمناً لنموّ الأفكار الاستعمارية وتطبيقها. هكذا يتمّ ببطء وحنكة القضاء على الهوية الفلسطينية، والقضية وتظهر محاولات جبّارة «للقضاء على الفقر» بموازاة تناسي سبب هذا الفقر.
أردنا الكلام مع الناس بحثاً عن ماض أو علاقة ما بما تُرك وراء الحدود الجنوبية. حدّثني أحد المارّة عن بستانه الذي رآه حين زار الحدود «بستاني كان قدّامي ومش قادر آكل منّو حبّة» قال. لكنّه شخص واحد، لم أستطع التكلّم مع غيره، والمخيّم يحوي نحو 240 عائلة فلسطينية مسيحية و140 عائلة لبنانية. فما هو مستوى التفاعل بين هؤلاء وما هي الحدود؟ لم أستطع أن أسأل هذه الأسئلة حتى. والإجابة لم تأت عنها، بل أتت تثبّت قوانين اللعبة وتعرّف الحاكم الذي يمتلك أدوات الرقابة ويملك أن يقرّر بمن يحتكّ أهل المخيّم وما ينقل من صورة إلى الخارج. القضية هي في استحواذ الكنيسة (عبر مجمع الكنائس) وميليشيا اليمين المسيحي على مضمون وهدف ما يُكتب من تاريخ للمخيّم. ففي مخيّم يقمع أي تبلور لهويّته وانتمائه ومظاهرهما، من الضرورة قمع كتابة التاريخ وبالتالي وأد أي محاولة لنسج علاقة مع الماضي أكان فكرة أم مكاناً أم تجربة، ويتمّ بذلك فرض كتابة تاريخ السلطة.
كنت أسعى إلى سماع تاريخ الناس، ما يذكرونه منه وما نسوه، ما يدلّ على هوية وما يخلق أيقونة ويقتل أخرى، فانتهيت إلى اكتشاف مصادر السلطة وتجلّياتها. بينما تتبسم الكنيسة من عليائها، وينير ضوؤها «القلوب» معمياً العقول عن الحدود الجنوبية، تقضي أحزاب اليمين المسيحي على أي انتماء للماضي لصالح الهوية الدينية، وتعمل الجمعيات على التركيز على الحاجات الاجتماعية والإنسانية. فكتابة التاريخ أساس لتبلور الهوية وتفعيل القضية كجوهر حيّ يتنفّس ويعيش كل يوم مع كل لاجئة.



يفتقر مخيم ضبية للاجئين الفلسطينيين إلى وجود لجنة شعبية تدير شؤونه الحياتية واليومية، أو تمثله في أيّ مجال، إن كان مع الدولة اللبنانية أو «الأونروا». يقع مخيم الضبية في الجهة الشرقية لمدينة بيروت، وهو محاذٍ لمخيمي تل الزعتر وجسر الباشا، اللذين دُمرا بسبب الحرب الأهلية اللبنانية عامي 1975 و1976، وتبلغ مساحة المخيم حوالى نصف كيلو متر مربع، ويسكن فيه حوالى 500 عائلة، أي حوالى 6 آلاف شخص، ويبلغ عدد اللاجئين المسجلين فيه على نحو رسمي 4,211 لاجئاً، وذلك حسب إحصاء «الأونروا» لشهر حزيران 2004.