دمشق | يتجمعون في الساحات الرئيسية، أو بالقرب من المناطق الحيوية وسط العاصمة دمشق، ينتظرون ساعات طويلة في صقيع الشتاء، أو لهيب الصيف، عابر سبيل يحتاج إلى عمالة يدوية، أو ما يسمى في لغة المجتمع السوري «الفعالة»، وهي الترجمة الشعبية لمصطلح البروليتاريا، الذي نظّر له كارل ماركس وفريدريك أنجلز في البيان الشيوعي.
والمقصود بها باختصار «طبقة أو شريحة من المجتمع، تعيش كلياً من بيع عملها فقط، لا من أرباح أي نوع من أنواع رأس المال. تتوقف معيشتها ووجودها، على مدى حاجة المجتمع إلى عملها». إذاً ينحصر مجال عمل البروليتاريا السورية، في جميع الأعمال التي تحتاج إلى جهد عضلي، من رفع مواد البناء إلى الطوابق العليا، ونقل أثاث المنازل، هدم الجدران ومخلفات البناء، وصولاً إلى تسليك مجارير الصرف الصحي.
في الحديقة المقابلة لمستشفى المواساة وسط العاصمة دمشق، يفترش أحمد وناصر وعبد المجيد وعبد السلام وأبو أحمد والعشرات من رفاقهم الأرض، يراقبون المارة وينتظرون توقف إحدى السيارات لتعم الفوضى بين صفوفهم، يسارعون للوصول إلى رب عملهم المؤقت، الذي يأمرهم فيطيعون، وينجزون ما يطلبه منهم بصمت، لينال كل واحد منهم في النهاية نصيبه من الأجر الذي يتفق عليه مسبقاً. تقف بالقرب منهم فيتسارعون إليك معتقدين أنك واحد من أرباب العمل، تخبرهم أنك صحافي وجئت للحديث معهم بمناسبة عيدهم «عيد العمال العالمي». يسخر بعضهم منك، وينادي أحدهم رفاقه «تعو سمعو هالسمعة... طلع للمعترين في عيد كمان». يتفرق البعض منهم مستائين ومتذمرين من فكرة «عيد المعترين»، كما سموه، بينما يقبل البعض الحديث على مضض، قائلين «يعني شو رح تكون غير فشة خلق لا بتقدم ولا بتأخر».
تتشابه الوجوه والابتسامات ورائحة العرق «غالبيتنا قدمنا من ريف مدينتي حلب وإدلب للعمل في العاصمة. من لا يمتلك الأرض لا يمكنه العيش في ريف الشمال السوري»، يقول أحدهم متحدثاً بلهجته الحلبية المحببة.
يقاطعه رفيقه متحمساً للكلام «أنا حاصل على الشهادة الثانوية، وبعضنا يحمل الشهادة الإعدادية والجامعية العليا والمعاهد المتوسطة، سجلنا في مكاتب التشغيل التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل منذ أكثر من 10 سنوات كاملة، لكن لم يصلنا جواب حتى الآن». فضّل هؤلاء إذاً عدم انتظار أحلامهم بالحصول على الوظيفة الحكومية، التي تؤمن لهم راتباً وحقوقاً تساعدهم على ظروف الحياة الصعبة. لا وجود لقوانين أو أنظمة لعملهم، المسألة خاضعة برمتها للعرض والطلب والاتفاق المسبق.
يطلب رب العمل المؤقت عدداً منهم لإنجاز ما يريده، ويتفاوض معهم على الأجر «بعد أن ننهي العمل في وقت قياسي، يحاول صاحبه أن يفاوضنا مجدداً على أجرنا، وكأن المسألة خاضعة للوقت، وليس للجهد والتعب الذي نبذله». يتعامل البعض مع مكاتب تأمين مواد البناء، والتصليحات المنزلية المختلفة، التي تلعب دور الوسيط بينهم وبين الزبائن، لكن اكتشفوا لاحقاً أنهم يتعرضون لعملية استغلال بشعة، عندما أيقنوا أن أصحاب هذه المكاتب يتقاضون في كثير من الأحيان عمولة تصل إلى نصف الأجر الذي يطلبونه من الزبون. «غالبية الزبائن التي تتعامل مع هذه المكاتب لا تعلم حقيقة الأجر الذي نتقاضاه مقابل الأعمال المختلفة التي نقوم بها، هذا ما عرضنا إلى استغلال لا إنساني من قبل أصحاب هذه المكاتب. فضلنا مقاطعتها والعمل بعيداً عنها... والرزق على الله».
قبل بداية الحركة الاحتجاجية في سوريا، كانت أعداد كبيرة من بروليتاريا دمشق متعاقدة مع عدد من المهندسين يشرفون على مشاريع سكنية كبيرة في مناطق مختلفة من ضواحي العاصمة، لقاء أجر يومي ثابت «800 ليرة سورية - حوالي 11 دولاراً أميركياً»، لكن الأحداث السورية المستمرة لعام ونيف، أوقفت جميع هذه المشاريع، وبالتالي قطعت أرزاق أعداد كبيرة منهم. «كنا نعمل أكثر من 12 ساعات يومياً. ننجز أي شيء يطلبه منا المهندس المشرف، من حفر وتكسير ورفع مواد بناء للطوابق العليا. لا فرق عندنا بين الصيف والشتاء، أو البرد والقيظ إلا بحجم التعب الذي نبذله يومياً». بعد توقف تعاقداتهم هذه، باتت الغالبية العظمى منهم تبحث وتنتظر أي عمل مهما كانت طبيعته، لتحصيل أكبر قدر من المال، الذي لا يتجاوز الآن «500 ليرة سورية - 7 دولارات» أسبوعياً. أطرف الأعمال التي فضّل أحمد (27 عاماً) القيام بها في الفترة الأخيرة، هو استثماره لانقطاع التيار الكهربائي عن الأحياء الراقية وابنيتها الشاهقة. ويقول «هناك رجال ونساء كبار في السن، لا يستطيعون الصعود إلى بيوتهم في الطوابق المرتفعة، لتوقف المصاعد نتيجة انقطاع تيار الكهربائي، أحملهم على كرسي أربطه إلى ظهري بإحكام، وهناك من أساعده بحمل أمتعته وأغراضه لقاء أجر مادي مقبول، بعض زبائني قدم لي الطعام وملابس مستعملة بالإضافة إلى الأجر المتفق عليه». لكن مع عودة انتظام التيار الكهربائي، وانخفاض عدد ساعات التقنين، عاد أحمد من زيارته للأحياء الراقية، ليقف مع رفاقه على ناصية الطرقات.
قبل نحو العام، فقد عبد المجيد (23 عاماً) عينه اليسرى بعدما اخترقتها شظية حجرية وهو يعمل في أحد البيوت. «لم يكلف صاحب المنزل نفسه عناء الاتصال بالإسعاف، أو حتى إعطائي الأجر الذي اتفقنا عليه عن العمل الذي لم أكمله. لم يستقبلني المستشفى الحكومي للعلاج لكوني لا أحمل أوراقاً ثبوتية أو بطاقة شخصية. هكذا خسرت عيني ببساطة!».
يعتبر الجميع أبو أحمد، الرجل الخمسيني، «شيخ الكار»، بعدما قضى أكثر من 24 عاماً في هذه المهنة «هل تعلم كم دورة انتخابية لمجلس الشعب كنت شاهدا على حملاتها الدعائية، وأنا جالس هنا في نفس المكان؟»، يضحك بمرارة وهو يشير إلى لافتات وصور المرشحين للبرلمان السوري من حوله. «أنظر إليهم جميعاً يتحدثون باسمنا، ويطلقون وعوداً رنانة بتحسين أوضاعنا المعيشية، لكن هناك قاسماً مشتركاً يجمعهم: الكذب والمتاجرة بعذاباتنا وتعبنا وعرقنا. إن كانوا صادقين فعلاً فليجلسوا معنا هنا، حتى تجد الحكومات والوزارات المتلاحقة حلاً لمعاناتنا».
بعيداً عن جميع النظريات الماركسية والشيوعية والاشتراكية، وبمعزل عن المعادلات والقراءات المتباينة حول «النظرية والتطبيق» وانهيار الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الشرقي، وقانون الاستثمار رقم 10، والسوق الاجتماعية، يعيش عدد كبير من البروليتاريا السورية نظاماً اشتراكياً خاصاً بهم وحدهم. يستأجر عشرة منهم مثلاً غرفة في حي المهاجرين، ينامون على الأرض صيفاً وشتاءً، يتشاركون رغيف الخبز، ويتقاسمون ما يحصلون عليه من أجر بشكل يومي. «نشتاق لعائلاتنا وأهلنا وأولادنا في قرانا وبلداتنا البعيدة. لكن نفضل البقاء هنا، حتى لا نعيش غصة مزدوجة إن رجعنا إلى أهلنا فقراء معدمين كما تركناهم».
المتزوجون من البروليتاريا السورية سبق أن سجلوا أسماءهم في مبادرة المعونة الاجتماعية، التي وزعت رواتبها على العائلات السورية المعدمة: «لكننا بقينا خارج هذه المعادلة، لأننا نعيش بعيداً عن أسرنا وأطفالنا، وطبعاً لسياسة الواسطة والمحسوبيات التي كانت ولا تزال مستمرة في التعاطي مع مسألة البطالة والفقر». أكثر مما يحلمون بتحققه يوم عيد العمال «أن لا ننام جياعاً وأن نلتقي أسرنا وأطفالنا محملين بما نشتهي ونحلم أن نقدمه لهم».